فن

في عيد ميلاده.. عبد العزيز مخيون.. نهر إبداع يتدفق صاخبا!

أصوات: يحتفل اليوم الفنان الكبير عبد العزيز مخيون -أطال الله عمره- بعيد ميلاده الثامن والسبعين، وهو ما زال في أوج عطائه الفني؛ يمتعنا بمخزونه الإبداعي الذي لا ينفد.. كما هو على المستوى الإنساني، لا يغيب عن أي مشهد يُنتصر فيه للحق والعدل ولكل قيمة نبيلة.. كل عام وهو بخير دائم الإبداع والتألق.

إن التضحيات التي يقدمها الفلسطينيون الآن من شأنها أن تجعلنا نرى فلسطين حرة أبية، وأن نرى عالما عربيا جديدا ترفرف عليه رايات الحرية والكرامة“.

بهذه الكلمات علّق مخيون خلال وقفة تضامنية مع الشعب الفلسطيني، عقب اندلاع حرب طوفان الأقصى بنحوٍ من عشرة أيام.

الجانب السياسي والنضالي من حياة الفنان جعله يدفع الثمن غاليا.. ما دفعه ذات يوم للقول أن “الفنان الذي يُعلن آراءه السياسية عليه أن يعلم أنه سيخسر كثيرا على المستوى الفني“.. لكن الطبع يغلب التطبع كما يقال؛ فرغم عشق مخيون للفن -الذي لم يمنحه ما منح غيره ممن هم أقل منه موهبة وإبداعا- إلا أنه لم يتخلّف يوما عن مشهد ينتصر فيه لانحيازاته الراسخة لأصحاب الحق.. وهو في النهاية راضٍ كل الرضى عن تلك المسيرة الحافلة بالتحقق المهني.. والتضحيات وما أكثرها!

في صخب قاهرة الستينات لم يخلع عبد العزيز ثوب البداوة الذي أتى به من “أبو حمص” بحيرة، وما كان له أن يفعل وهو الذي رغم نشأته في أسرة موسرة ذات أصول قبلية، كانت تسيطر على مساحات واسعة من الأرض الزراعية.. وتعيش في “سرايا” ويمثل أفرادها الدائرة بانتظام في مجلس النواب، والعمودية تتداول بين أفرادها- لم يفسده رغد العيش، وقد عرف انتماءه الحقيقي على نحوٍ وجداني خالص دون تشويش.

تعددت مشاهدات الطفل عبد العزيز، بين الاحتفالات ومحافل الشعر في وجود مكتبة عملاقة تضم ذخائر الكتب، وعم يتعهدها بالعناية مداوما على كتابة الشعر.. لكن كل ذلك لم يكن بالقوة الكافية التي تحول الطفل عن شغفه الأهم.. “الأرض والناس”.

مقبول مع إيقاف التنفيذ

عندما تقدم مخيون لاختبارات المعهد العالي للفنون المسرحية- نال إعجاب لجنة القبول؛ لكنه فوجئ بإدراج اسمه في القائمة الاحتياطية للمقبولين، ورغم أنه خاض أيضا اختبارات معهد السينما وقُبل؛ إلا أنه رأى أنه صاحب حق لا يجب التنازل عنه.. كما أنه كان يرى المسرح مجالا للعمل الدءوب الذي يستطيع من خلاله أن يغيِّر وأن يصبح فاعلا ومؤثرا في مجتمع يتشكل بتفاعلات الثورة والتغيرات الاجتماعية الكبرى.

اصطحب مخيون زميلا له ورد اسمه أيضا في القائمة المذكورة وتوجها إلى مبنى الإذاعة والتليفزيون للتقدم بشكوى إلى السيد عبد القادر حاتم وزير الثقافة والإرشاد القومي في مطلع الستينات. في شكواه أعزى الفتى ما حدث له بأنه كان إجراءً تحايليا من أجل توفير أماكن لبعض الطلاب من أصحاب الواسطة.

بُحِثَت الشكوى وتُحقِّق من صحة ما ورد فيها.. ما ترتب عليه إعادة الحق إلى أصحابه؛ ليصبح مخيون طالبا بمعهد الفنون المسرحية؛ لكنه لم يكتف بذلك؛ كان عليه أن ينشئ بناءه الثقافي الخاص، فهو مشغول طوال الوقت بفكرة التأصيل، كما يرى في نفسه ذلك الفنان الذي يستطيع القيام بدور تأسيسي يبتعد بالفن عن فكرة التقليد، ويعود به إلى جذوره الحية في الواقع المصري وثيق الصلة بالتراث والثقافة العربية.

القاهرة تفتح قلبها لفلاح “أبو حمص”

عرف مخيون طريقه إلى سور “الأزبكية” وانتظم على حضور عروض الأوبرا، والعروض المسرحية للفرق الأجنبية التي كانت تزور مصر آنذاك، إلى جانب التردد على المراكز الثقافية الأجنبية، والمواظبة على حضور دروس اللغة الإنجليزية لإتقانها.

خَبِر فلاح “أبو حمص” بحيرة، القاهرة كما لم يعرفها غيره.. خبرها بعين واعية، وبقلب مفعم بالأمل وعقل متقد بالرغبة في المعرفة؛ فاحتواه قلبُها المضطرب، فبادلها حبا بحب! اجتذبته هاوية الشعر؛ فاندفع إليها قارئا نهما ومؤديا بارعا.. “لا يمكن لفنان المسرح أن يكون بعيدا عن دوائر الشعر.. لا يشترط أن يكون شاعرا؛ لكن يتوجب عليه أن يكون مسكونا بالشعر“.. في المركز السوفييتي يُلقي عبد العزيز قصائد مختارة.. تقوده موهبة الإلقاء إلى “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” يختار “بكائية ليلية” من الديوان؛ فيندلع الحزن هادرا “إلى أن تنضب الأشعار”. ثم يلقاه أمل دنقل فيرتاح إلى رفقته حتى أن سنوات تمضي وهما لا يفترقان.. يجدد أمل روح الشعر العربي، وعبد العزيز يؤسس لرؤية مسرحية مغايرة، تنفصم بها عُرَى الصلة بالمسرح الغربي.

ربما وجد فناننا ضالته في تلك المقالات الثلاث التي نشرها يوسف إدريس بمجلة الكاتب بعنوان “نحو مسرح مصري” وكتابات عديدة أخرى للدكتور علي الراعي دعا فيها إلى البحث عن صيغة مسرحية مصرية تتخلص من الإطار الكئيب لما أسماه مسرح العُلبة الإيطالي.. في تلك الفترة كانت هيئة المسرح تشهد استقطابا حادا بين أصحاب الرؤى التقدمية والرجعيين، ولأسباب عديدة لم تكن الدولة جادة في مواجهة أقطاب الرجعية على تفاهة وتهافت ما يقدمونه من أعمال مسرحية، وكان من الاشتراطات التي اتخذتها الهيئة ألا تقدم الأعمال المسرحية إلا على خشبة المسرح، وأن تكون النصوص قد اعتمدت وأجيزت من ذي قبل.. كانت هذه القيود في ظاهرها الرحمة، وباطنها من قِبَلِه العذاب.. كان الهدف منها ألا يتحول المسرح إلى فوضى بدافع التجريب، والحداثة وطرح رؤى التجديد؛ لكنها من ناحية أخرى صارت سيفا مسلطا على رقاب المبدعين، ووسيلة للتنكيل بأصحاب الرؤى وإحباطهم وصرفهم عن العمل المسرحي.

قرر مخيون بعد إنهائه الدراسة في المعهد أن يعود إلى قريته، لخوض غمار تجربة مسرح الفلاحين.. لقد احتفظت ذاكراته بمشاهد كثيرة رآها صغيرا في أفراح الفلاحين ومناسباتهم تقترب كثيرا من الشكل المسرحي.. حصل على نصٍ مُجَازٍ رقابيا وهو نص “الصفقة” لتوفيق الحكيم.. واختار قرية قريبة من قريته تسمى قرية “زكي أفندي” وعلى سبيل التمهيد للعمل أقام مخيون فصولا لمحو الأمية،  كما أدار حوارا مجتمعيا لفض المنازعات.. استغرقت التجربة ثلاث سنوات ولم تستمر لأسباب عديدة وإن كانت قد حققت الكثير من النتائج الطيبة، وقد سجل مخيون التجربة بالتفصيل في كتاب “يوميات مخرج مسرحي“.

طالب بعثة في باريس

من المراحل الهامة شديدة التأثير في حياة المبدع عبد العزيز مخيون- سفره إلى فرنسا في بعثة لدراسة مناهج المسرح الحديث.. وقد عمل أثناء البعثة بالصحافة العربية في أوروبا، وتعرّف عن قرب على الثقافة الفرنسية بكافة جوانبها- وهو ما أثرى تجربة الفنان وزادها عمقا، كما فرضت عليه مزيدا من القيود في تدقيق اختياراته في ما يشارك فيه من أعمال.

ولا يخفي الفنان ندمه الشديد على فواتِ كثيرٍ من الفرص التي كان من الممكن أن تكون من نصيبه بسبب سفره الذي استمر لثلاث سنوات؛ سبقتها تجربة مسرح الفلاحين التي استغرقت فترة مماثلة.

في سعيه الدءوب نحو امتلاك رؤية متكاملة تصلح بديلا لواقع يموج بالمتناقضات.. يتعرف مخيون مبكرا على المهندس حسن فتحي، مبدع عمارة الفقراء.. كانت تلك الرؤى الأصيلة في شتى العلوم والفنون تجتذبه بقوة.. صاحب فناننا شيخ المعماريين لفترة واكتسب منه خبرة واسعة أهلته بعد ذلك لبناء بيته الخاص في الفيوم ليكون نموذجا للبيت المصري المعتمد على خامات البيئة والذي تعبر تفاصيله عن تجليات الحضارات المتعاقبة على الشخصية المصرية.

كان من الطبيعي أن تجتذب بحيرة قارون فناننا المنتمي بقوة لكل ذرة من تراب الوطن.. وفي تجربة أليمة يحاول مخيون الدفاع عن البحيرة ضد ما يرتكب في حقها من تعديات، لكن صوته يذهب أدراج الرياح رغم تواصله مع العديد من العلماء والباحثين في مصر وخارجها وحصوله على ما يثبت أن شمال البحيرة يحمل آثار الإنسان الأول، وأنه لا يجب ممارسة أي أنشطة خارج البحث العلمي الدقيق في المنطقة.. لكن صوته يتبدد في ضوضاء البيروقراطية المتكلسة داخل الجهاز الإداري للدولة المصرية.

السينما.. والفرص الضائعة

كان من الممكن أن يكون فيلم الكرنك بداية انطلاقة واعدة لمخيون في السينما.. رشحه صديقه ورفيق دربه علي بدرخان لدور محوري.. سأل عبد العزيز عن موعد انتهاء التصوير؛ فأكد له الإنتاج أنه في شهر أبريل.. كان قد وقع عقدا لتصوير مسلسل في دبي في أول يوليو.. بعد تصوير مشهدين تعطل التصوير أكثر من مرة ليمر الوقت ويضطر عبد العزيز للسفر.. لتضيع فرصة مهمة.. لكن الأقدار تعوّضه ببطولة فيلم “الجوع” أمام السندريلا.. من إخراج علي بدرخان أيضا.

أعماله في السينما تجاوزت الخمسين عملا، ربما كان أهمها “الهروب” مع عاطف الطيب في دور الضابط “سالم” الذي توقعه الأقدار في مأزق الاختيار بين واجبه وانتمائه لأهله وناسه، لكن مخيون يعكس بُعدا أكثر عمقا للأزمة عندما يكتشف أن “منتصر” صديق طفولته الذي يطارده ويسعى للإيقاع به؛ كان – طوال الوقت- تجسيدا لكل ما لم يستطع “سالم” فعله أو الإقدام عليه تحت وطأة العجز والمسئولية والانقياد للتقاليد.

صولات وجولات في الدراما التليفزيونية

في الدراما التليفزيونية تأخّر تألق الفنان كثيرا إلى 1984، حين قدم شخصية “وحيد رضوان” في “الشهد والدموع”.. كان الدور مركبا حافلا بالتفاصيل التي استطاع مخيون جمعها بمهارة، رغم التناقضات التي تزخر بها الشخصية، ثم تأتي “ليالي الحلمية” لتشهد تألقه في دور “طه السماحي” المناضل الثوري الذي يختار العمل المسلح ضد المحتل منحيا النضال السلمي جانبا إلى أن يقضي شهيدا.

على مدي أكثر من أربعة عقود كان لبطلنا صولات وجولات في الدراما التليفزيونية، لكن أدوارا ثلاثة لا بد أن نقف أمامها بمزيد من التقدير والانبهار.. أولها دوره في مسلسل “شيخ العرب همام” دور الشيخ “إسماعيل” ابن عم شيخ العرب وذراعه الأيمن الذي تتمزق نفسه بين حبه لابن عمه وولائه له، وبين حقده عليه ونقمته على ما يصدر عنه من أفعال تزري به وتجعل سيرته مضغة تلوكها الألسنة ما ينتهي به إلى الخيانة والغدر بشيخ العرب.

ومع حاتم علي في “عمر” يقدم دور أبو طالب عم الرسول في مشاهد معدودة استخرج مخيون من خلالها طاقات إبداعية هائلة جعلت “أبا طالب” يتجسد بما يشبه الحقيقة في تفاعلات نفسية بالغة الصعوبة عصفت بالشيخ الفاني المحب لابن أخيه والمدافع عنه والذي يخشى في الآن ذاته ضياع كيان قومه وانفراط عقدهم بسبب دعوة ابن أخيه.

ثالث تلك الأعمال الدرامية العظيمة مسلسل “بدون ذكر أسماء” من تأليف وحيد حامد وإخراج “تامر محسن” في دور ربيع الحلواني المواطن البسيط المحمل بهموم السعي لطلب الرزق في مجتمع تداعت كل قيمه، فأصبح نهبا لكل ذي غرض.. يقف ربيع الحلواني في أشد حالات ضعفه لا يستطيع رد تصاريف القدر عن ابنتيه فتتحول الأولى إلى مجرد أداة لتفريغ الشهوة بالنسبة لزوجها النهم مدعي التدين، بينما تتحول الأخرى لسلعة تباع لثري عربي بعقد زواج، بينما يخرج ابنه الوحيد عن طوعه ويتحول إلى صحفي فاسد، حتى البيت الذي كان يأويه لعقود يطرد منه بجبروت مالكه ضابط الشرطة.. المسلسل يرصد مرحلة من أخطر المراحل التي عاشتها مصر وهي الفترة من (1984-1994) التي شهدت تحولات كبرى في المجتمع المصري صاحبت تغوّل نظام الرئيس مبارك.

“ربيع الحلواني” كان التعبير الأدق والأروع عن شخصية المواطن المصري المهادن المغلوب على أمره الذي لا يطمع إلا في الستر.. عبَّر مخيون عن تفاصيل الشخصية باقتدار بالغ فلم ينتقص من حمولتها الفنية شيئا، فكانت في كل مشهد تحمل للمشاهد هذا الهم المتوارث وتلك الخيبات المتتابعة في إبداع فني يَمْثُل واقعيا إلى درجة الإتقان التام.

عبد العزيز مخيون ليس فنانا مبدعا قديرا قدم عبر مسيرته عشرات الأدوار الرائعة فحسب بل هو المواطن العربي المهموم بقضايا وطنه وأمته بعشق محتوم لا يستطيع منه فكاكا.. ربما فكّر فناننا القدير كثيرا في أنه صعَّب الطريق على نفسه بكثرة المعارك التي خاضها.. ربما فكّر أن كثيرا من الفرص قد ضاعت عليه بسبب مواقفه السياسية والاجتماعية.. ربما وقف كثيرا جدا أمام مآسٍ تعرّض لها.. كان من الممكن تجنبها؛ لكن مخيون المسكون بالوطن يدرك تماما أنه لم يكن ليستطيع إخلاف موعده أبدا، لم يكن ليستطيع التنصل من الحلم أو إيداعه خزانة النسيان.. يدرك الفنان جيدا أن أقداره تصنعه بأكثر مما يستطيع هو صنع أقداره، ولو تخلى مخيون عن ذلك الدور الرسالي الذي آمن به منذ وعى الفن صغيرا بمدرسة بني منشأة دمسنا الابتدائية، لما بقى منه في الذاكرة شيء.. وها هو وهو يخطو نحو عامه الثمانين ما زال يدهشنا بقدرته على العطاء بخبرات فنية تختصر طبقات من الثقافة والحضارة والروعة.. عبد العزيز مخيون نعمة فنية نسأل الله دوامها.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock