في حين يستند البعض، في عودة ظاهرة “العنف السياسي” إلى العراق، ومحاولات التصفية السياسية، لعديد من الشخصيات السياسية العراقية، إلى تورط بعض الفصائل المسلحة، التي تحظى بقدر ما من التمثيل السياسي، نتيجة العداء المتنامي بين بعضها البعض؛ إلا أن هناك بعض آخر، مُقربون من هذه الفصائل، يعود بالظاهرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، التي تقف وراء الظاهرة، وإن بشكل غير مُباشر، من أجل إيقاف المُطالبات بخروج القوات الأمريكية من البلاد.
ففي مشهد يُعيد إلى الذاكرة “هشاشة” الوضع الأمني في البلاد، عاد شبح “العنف” ليُلقي بظلاله من جديد على الشارع العراقي؛ حيث سجلت “خمس” حالات لمحاولات اغتيال، خلال مدة زمنية قصيرة، قدرها “ثلاثة” أسابيع فقط؛ وكانت آخر تلك المحاولات، محاولة اغتيال المستشار الأسبق لرئاسة الجمهورية العراقية، ورئيس مؤسسة “المدى” للإعلام والثقافة والفنون، فخري كريم، الذي نجا من المحاولة، الخميس 22 فبراير الماضي.
الضعف الأمني
من اللافت، أن الأسباب الدافعة إلى ظاهرة “العنف”، خاصة السياسي، على الساحة العراقية تتعدد.. وذلك كما يلي:
فمن بين هذه الأسباب، وجود فشل استخباري وخروقات أمنية واضحة؛ إذ عبر تكرار محاولات الاغتيال، وبالتحديد الاغتيالات السياسية، يبدو أن هذه الظاهرة ليست بالظاهرة الدخيلة على الساحة العراقية؛ بل هي استمرار لحالة العنف المتنامي في العراق، منذ فترة من الزمن، وتحديدا منذ الأحداث التي أُطلق عليها “انتفاضة تشرين” عام 2019، بما يؤكد وجود نوع من الفشل الاستخباري، والخروقات الأمنية أيضا. يؤكد هذا محاولات الاغتيال، التي جرى تنفيذ “خمس” حالات منها في حوالي 22 يوما.
فهذه العمليات جميعها، تحمل دلالات واضحة على أنها قد خُطّط لها بعناية، من جانب بعض الجماعات التي تستهدف الفوضى وإسكات الآخرين؛ وهو ما يؤشر إلى جهات معينة تسعى إلى تحميل حكومة محمد شياع السوداني بأمور شائكة ومُعقدة، وقد تكون وراءها أجندات استخبارية دولية أو إقليمية.
والمثير للانتباه، أن محاولات الاغتيال هذه تأتي في وقت تُطلق فيه وزارة الداخلية العراقية، مُبادرات لحصر السلاح بيد الدولة، ومنها تخصيص مبلغ “مليار” دينار عراقي (نحو 7.63 مليون دولار)، لكل محافظة بُغية شراء الأسلحة المتوسطة من المواطنين، بحسب تصريح الناطق باسم الوزارة، العميد مقداد ميري، الاثنين 26 فبراير الماضي.
هذا، يؤكد أن الوضع الأمني في البلاد، يتسم بالهشاشة والضعف؛ حيث إن تنامي ظاهرة الاغتيالات بصفة عامة، والاغتيالات السياسية على وجه الخصوص، تأتي كـ”مؤشر” واضح، وخطير، على مدى ما يُعاني منه الوضع الأمني في البلاد. بل، إن عودة مشاهد الاغتيالات بين المدنيين والسياسيين إلى الساحة العراقية من جديد، وخلال فترة زمنية قصيرة، هو دليل دامغ على أن الأجهزة الأمنية، لم تستطع أن ترتقي إلى “المستوى الحرفي” لضبط الوضع.
ومن ثم، يبدو أن الحكومة العراقية تُعاني من أزمة كبيرة، سواء مع مُنافسيها أو في ما بين مكوناتها؛ وذلك من حيث إن قيادات الإطار التنسيقي، فضلًا عن الميليشيات المُسلحة، لا تأتمر بأمر الحكومة العراقية.
الخصومة السياسية
فمن بين الأسباب، أيضًا، في عودة ظاهرة الاغتيالات إلى الساحة العراقية، تأتي مسألة التصفية السياسية، التي تستهدف بالأساس نوعًا من محاولات إثارة الفتنة السياسية، عبر دفع تيار سياسي مُعين للانجرار وراء الأخذ بالثأر نتيجة اغتيال أحد رموزه.
صحيح أن حوادث الاغتيال في محافظات العراق “لم تخل من الطابع العشائري والجنائي”؛ لكن يبقى من الصحيح كذلك، أن المثال الواضح على محاولة إثارة الفتنة، يتمثل في استهداف الناشط “الصدري” أيسر الخفاجي، الذي كان ضحية لمحاولة “إثارة الفتنة في محافظة بابل”؛ خاصة أن اغتياله، كما يؤكد مدير المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية، غازي فيصل، في حوار مع موقع “العربية”، الاثنين 26 فبراير الماضي، جاء في نفس يوم تسلم مُحافظ بابل الجديد، عدنان الفيحة، منصبه. لاسيما أن الفيحة تابع لحركة “عصائب أهل الحق”، أشد مناهضي التيار الصدري في العراق.
إلا أن تغريدة الزعيم الصدري، مقتدى الصدر، والتي حذَّر فيها أنصاره مما أسماها “الفتنة”، استطاعت أن تضع حدًا لتلك المحاولة.
هذا، بالإضافة إلى استخدام السلاح لحسم الخصومات السياسية؛ حيث إن الأحزاب والقوى السياسية العراقية، غالبًا ما تستخدم السلاح لأجل انتزاع بعض المكاسب السياسية والمواقع الحزبية. ووفقًا للخبير الأمني العراقي، اللواء المتقاعد عماد علو، في حوار مع وكالة “أنباء العالم العربي” (AWP)، الإثنين 26 فبراير الماضي، فبالإضافة إلى استخدام الأحزاب السياسية السلاح لحسم خصوماتها مع القوى التي تختلف معها، هناك نوع آخر من الاغتيالات، يكون بين عصابات تهريب السلاح والمخدرات، وهي تلك التي تفاقمت في الفترة الأخيرة أيضًا.
وبالتالي، يُمثل “السلاح المُنفلت” خطرًا دائمًا على استقرار الأوضاع الأمنية في العراق، مما يتطلب معه محاولة إيجاد حلول جذرية، لأن عدم استقرار الوضع يبعث مجموعة من الرسائل إلى خارج العراق، بأن البلد غير آمن، وغير صالح للاستثمار؛ إذ إن جريمة الاغتيال السياسي لا تعني، في التحليل الأخير، سوى إسقاط أحد أهم أركان النظام الديمقراطي، من حيث درجة تأثيرها على صانع القرار السياسي.
أهمية التوقيت
إضافة إلى ذلك، يُمكن مُلاحظة أهمية التوقيت، في عودة ظاهرة الاغتيالات إلى الساحة السياسية العراقية؛ فمع ما يتأكد من أن الحكومة العراقية ضعيفة، وأن الوضع الأمني غير مُستقر؛ إلا أن التوقيت في تصاعد الظاهرة هو توقيت مُهم، من حيث المؤشرات التي تدل عليه.
إذ، يبدو أن هناك جهات تتعمد إثارة ملف الاغتيالات، في التوقيت الذي تُطالب فيه عديد من القوى السياسية بإخراج القوات الأمريكية، وقوات التحالف عمومًا، من العراق، وذلك في محاولة إيصال رسالة إلى المواطنين العراقيين بأن “القوات الأمنية ليست قادرة على السيطرة على الوضع الأمني في البلاد”.
ومن ثم، في هذا السياق، يُمكن القول بأن عودة ظاهرة الاغتيالات إلى الساحة العراقية، وخاصة الاغتيالات السياسية، إنما هي عملية مقصودة لإظهار ضعف حكومة السوداني، وضعف الأجهزة الأمنية العراقية عن السيطرة على الوضع الأمني في العراق. وهو ما يؤشر إلى ضرورة أن تُبدي الحكومة العراقية استعدادًا كاملًا لمُلاحقة الجناة، والإعلان عن هوياتهم، ومن يقف ورائهم؛ إذ، إن المماطلة في الكشف عن أولئك الجناة، لن يؤدي إلا إلى الاضطراب الأمني وعدم الاستقرار المجتمعي.