بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن موقع عمان
عادة ما يأمل المرء أن تنتهي أي مفاوضات تهدف لحل نزاع مسلح إلى النجاح.
استثني من هذه القاعدة مفاوضات الهدنة الحالية بين المقاومة الفلسطينية بقيادة حماس في مواجهة أمريكا وإسرائيل.
فقد ارتاح كاتب هذا المقال -ومعه ربما رأي عام عربي – وتنفسوا الصعداء عندما تعثرت هذه المفاوضات الأسبوع الماضي وامتنعت عن الامتثال لهدفها الأمريكي في التوقيع على اتفاق هدنة مؤقت قبل حلول شهر رمضان المبارك.
لا علاقة لذلك التعجل الأمريكي نهائيا بوقف مفرمة اللحم الأمريكية – الإسرائيلية للأطفال والنساء وكبار السن من الفلسطينيين لما يقرب من ١٥٥ يوما.
فقط تتخوف واشنطن من أن يقود استمرار المذبحة والمجاعة في غزة في أيام الشهر الفضيل بأجوائه الدينية والروحية في زيادة منسوب الكراهية العربية والإسلامية لها التي وصلت لمستويات قياسية تفوق ما بلغته حتى بعد عدوان ٦٧ أو بعد غزو العراق وتهدد مصالحها واستقرار الحكومات الحليفة المعتدلة.
تخشى واشنطن فحسب من تحول الحرب لحرب دينية بين الإسلام والغرب خاصة وأن الشعوب العربية تشهد بأم عينيها ضلوع أمريكا الكامل في قتل وإصابة وفقد نحو ١٢٥ ألف فلسطيني، وتحويل نحو مليوني فلسطيني في غزة إلي نازحين، وإيصال ما يقرب من مليون منهم إلى حافة المجاعة.
كما تخشى أمريكا ومعها إسرائيل أن تنفجر الضفة الغربية والقدس في انتفاضة جديدة في رمضان يكون عنوانها المسجد الأقصى. تطور قد يضع حملا هائلا على ربيبتها إسرائيل وجيشها المنهك ويجبره على الحرب على جبهتين فلسطينيتين وليست جبهة واحدة.
تطور تعلم أمريكا إنه إذا حدث سيخفف العبء على غزة ومقاومتها الباسلة وسيزيد من صعوبة بلوغ واشنطن هدفها الاستراتيجي: سحق المقاومة ونزع سلاحها.
المعنى الوحيد لتعثر المفاوضات -وبالتالي للارتياح – هو أن المقاومة لم تستسلم بعد، ولم ترضخ بعد للضغوط الأمريكية الإسرائيلية التي مورست عليها.
فما رفضت حماس التوقيع عليه في المفاوضات أفشل ولو مؤقتا الاتفاق – الفخ الذي نصب لها بإحكام وكان سيقود لا محالة إلى منح إسرائيل عن طريق السياسة نصرا غير مستحق فشلت في تحقيقه عن طريق القتال.
حشر حماس في الزاوية وفخ السياق الإجرائي: جولات المفاوضات الأخيرة في سياقها الإجرائي كانت مؤشرا صارخا على ما يحاك للمقاومة.. إذ امتنعت إسرائيل عن إرسال وفدها للمباحثات وبالتالي تحولت المفاوضات بقدرة قادر إلي حشر لوفد حماس في الزاوية وتكثيف الضغط عليه من كل الأطراف.الحشر في الزاوية ترافق مع حملة سياسية خاضتها القوة الأعظم في العالم على أعلي مستوى، إذا أجرى الرئيس بايدن بنفسه اتصالين مباشرين مع الطرفين الوسيطين المصري والقطري على مستوى رأسي الدولة يتوقع أو يطلب منهما الضغط على حماس للموافقة على صيغة الاتفاق الموضوعة على الطاولة. وتمت أيضا في إطار حملة تضليل إعلامية شارك فيها جون كيربي وكمالا هاريس عممها الإعلام الغربي والإعلام “العبري” الناطق بالعربية المتبني للسردية الإسرائيلية مفادها: أن إسرائيل تفاوضت بحسن نية ووافقت على صيغة اتفاق جيد وأن الكرة في ملعب حماس، حماس التي كان كل دورها في هذا السيناريو أن توقع عليه كما هو وإلا اعتبرت أمام شعبها مسؤولة عن استمرار سقوط الشهداء والجرحى واستمرار معاناته وجوعه.
نزع سلاح المقاومة وفخ السياق الموضوعي: بقدرة قادر أيضا قامت الولايات المتحدة بحرف المسار الموضوعي الذي تبحثه المفاوضات من هدفه الأول وهو وقف إطلاق النار “أي وقف الإبادة الجماعية للفلسطينيين” إلى هدف آخر تماما ألا وهو إطلاق سراح جميع الرهائن لدى المقاومة في مقابل هدنة مؤقتة لمدة ٦ أسابيع تعود بعده إسرائيل لاستئناف حربها الوحشية على غزة.
الهدف صمم ليلائم حملة بايدن الانتخابية التي تعاني من إخفاقه في التعامل مع هذه الأزمة عامة وإخفاقه الذريع في إعادة الرهائن خصوصا. وصمم ليلائم ادعاءات نتنياهو بأنه حقق نصرا من أي نوع.
لكنه كان يعني سلب المقاومة أهم ورقة في يدها وهي ورقة الأسرى الإسرائيليين التي فشلت إسرائيل في استعادتهم عن طريق الحرب، أي باختصار كان يعني إعلان هزيمة المقاومة وإعلان انتصار إسرائيل على الرغم أنه وفي ميدان المعركة الحقيقية فإن المقاومة صامدة ولم تستسلم والجيش الإسرائيلي يخسر كل يوم نخبة رجاله ولم يقترب حتى الآن من كسر إرادة وسلاح المقاومة.
موافقة حماس على اتفاق ظالم كالذي طرحه الأمريكيون نيابة عن الإسرائيليين دون التعهد بإنهاء الحرب أو عودة نازحي الشمال أو تدفق المساعدات الانسانية التي يعرقلها الاحتلال كان يعني أولا إضاعة كل إنجاز هجوم السابع من أكتوبر، وكان يعني ثانيا السماح لآلة الحرب الأمريكية – الإسرائيلية بمزيد من الوقت المستقطع إلى أجل مفتوح بلا نهاية لتدمير ما تبقى للمقاومة من سلاح ومقاومين.
كان يعني ثالثا سماح حماس باستئناف إبادة إسرائيل للشعب الفلسطيني في غزة ولكن هذه المرة وهو أعزل تماما من سلاح وصواريخ المقاومة التي توجه إسرائيل وتقصف مدنها محولة إياها لمدن أشباح ومستوطنيه إلى نازحين ومهجرين. ويعني رابعا ازالة أي رادع من أسرى إسرائيليين محتجزين تنفجر بسببهم تظاهرات واحتجاجات شعبية يومية تشق صف المجتمع الإسرائيلي وتهدد استقرار حكومة نتنياهو.
لفرض هذا السيناريو وحشر المقاومة في الزاوية لتوقيع اتفاق استسلام على غرار أوسلو لم تتورع واشنطن عن رفع آخر برقع للحياء السياسي فالنظام الدولي للسلم والأمن العالميين المسمى الأمم المتحدة ومجلس الأمن الذي أصابته واشنطن بالسكتة القلبية ثم أودعته ثلاجة الموتى في هذه الأزمة باستخدامها الفيتو لمنع كل مشروع قرار قدم لوقف الحرب وإنهاء الإبادة العرقية للشعب الفلسطيني.. عادت بكل تجبر لإخراجه من مشرحة الطب الشرعي لترتديه من جديد حذاء سياسيا لتحقيق أهدافها فقدمت مشروع قرار لمجلس الأمن ليكون سيفا مسلطا على المفاوضات “بأنها إن لم تتوصل إليه طوعا سيفرض عليها بقرار أممي ملزم”. ورغم الشكوك في أن روسيا والصين سيترددان في استخدام نفس السلاح “الفيتو” فإن واشنطن لم تتراجع ولم تتوقف عن المحاولة عبر توزيع مشروع القرار لاستخدامه سلاحا للضغط على المقاومة في المفاوضات ربما رضخت بتهديده.
آخر هذه الأسلحة كان الإعلان الواضح لدرجة الفجاجة السياسية على أن مبادلة الأسرى سيكون ثمنها فقط هدنة الـ ٦ أسابيع المؤقتة فقط أما إنهاء الحرب فقد رفعت واشنطن ثمنه إلقاء المقاومة سلاحها ورفعها الراية البيضاء لعدوها.
فقد صرح الأمريكيون أثناء نفس جولة مفاوضات الأسبوع الماضي بالقاهرة أن الحرب يمكن أن تنتهي في غزة فورا ولكن فقط إذا ألقت المقاومة سلاحها وتخلت عنه.
تؤكد واشنطن مرة أخرى بذلك أن الحرب الوحشية وقتل عشرات الآلاف من الأطفال والنساء الفلسطينيين في غزة هي حرب بايدن وحربها المقدسة قبل أن تكون حرب نتنياهو وإسرائيل المقدسة.
تتحرك وتخطط واشنطن في مفاوضات غزة وسيناريوهات اليوم التالي وفقا لقناعة استراتيجية استقرت عليها لدرجة اليقين مفادها: أن المقاومة خاصة الفلسطينية هي العقبة الكؤود الوحيدة التي تعترض هندستها لشرق أوسط يغمره التطبيع من الرأس إلي القدم. شرق أوسط تقوده بواسطة حلف عربي – تركي سني مع إسرائيل يواجه وربما يحارب إيران حليفة الصين وروسيا.