يصف المؤرخون صلاح الدين الأيوبي بأنه قائد عظيم جدا، جاء في الوقت السيئ جدا ليواجه العدو الأخطر جدا، ليحرر القدس والمسجد الأقصى بعد ثمانين عاما من الاحتلال.. كان هذا في عام 1187م في حطين الشهيرة الملهمة، وبعد أن دخل(قدسنا) وعادت إلى حضن الأمة، أرسل رسالة إلى ريتشارد الأول ملك إنجلترا(ت/1199م) الملقب بقلب الأسد، وقال له فيها كلاما مختصرا للغاية ودقيقا للغاية وعميقا للغاية: “لن يمكنكم الله من أن تشيدوا حجرا واحدا في هذه الأرض طالما استمر الجهاد” كما قال لنا القاضي والمؤرخ بهاء الدين بن شداد(1234م)، كاتب سيرة صلاح الدين، والذى كان واحدا من أكبر كتاب زمنه، والمقطع الأخير من الجملة لا يصدر إلا عن قائد عارف بسنن التاريخ، عارف بحقائق الأشياء، وقبل كل شيء عارف بدينه معرفة “الفهم” وهو هنا سيكون قد اقترب وقربنا معه إلى حديث معاذ بن جبل الشهير الذى رواه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: قال لي الرسول: إن شئت أنبأتك برأس الأمر، وعموده، وذروة سنامه، قلت: أجل يا رسول الله قال: أما رأس الأمر فالإسلام، وأما عموده فالصلاة، وأما ذروة سنامه فالجهاد.
وكلمة “الأمر” هنا بقدر ما هي جامعة، بقدر ما هي مفتوحة على ما لا يحصى من مفاهيم النظر، وحين تصدر عن رسول الله بهذا الاختصار، فعلينا أن ندرك فورا أنها تمثل “قلب الحقيقة” في المعرفة، المعرفة بالله وبالنفس وبالدنيا والناس ولا يفوتنا أن نتذكر في هذه الأيام المباركة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أختص معاذ أيضا بالدعاء المعروف بعد كل صلاة “اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك”.
أن يكون رأس “الأمر” الإسلام ..فهذا يعنى الكثير وما هو أكثر من الكثير لنا، في إحكام المعنى حول إدراك كل شيء يتعلق بنا، باعتبار أننا الأمة التي ما كان لها أن تكون إلا بالإسلام، فهو الذى منح الأمة حقيقتها ووحدتها ولغتها والتاريخ المشترك لها وثقافتها وأخلاقها، ولطالما كان التدهور في تاريخنا كله يتصل بشكل وثيق بتدهور الوعي بالإسلام.
وسنتذكر هنا جملة رائعة للدكتور عبد الهادي أبو ريدة رحمه الله(1991م) أستاذ الفلسفة الكبير والأول على دفعته عام (1934م) دفعة روائي العربية الكبير نجيب محفوظ(ت/2996م) رحمه الله.. ماذا قال لنا الفيلسوف صاحب نظرية “السلام الداخلي بين منطق الوحى ومنطق العقل”؟
قال: أن الإسلام هو أساس تكون الأمة ووجودها، وهو الذي سيكون أساس نهضتها.. ولعل الأستاذ هيكل رحمه الله ( ت/2016م) قد استلهمها بشكل أو بأخر حين قال في محاضرة شهيرة له بمعرض الكتاب سنة 1990، “لا نهضة للشرق في غياب الإسلام”.
ما علاقة الإسلام والأمة والتاريخ و صلاح الدين وشرطه الذى اشترطه “طالما استمر الجهاد”.. بهذا الذى يجرى على أطراف حدود تاج الشرق (مصرنا العظيمة).. في مدن وبلدات وبيوت وشوارع ومساجد وكنائس ومدارس ومستشفيات غزة؟ وبما لا يمكن أن يوصف ولا ينسى “أنفاق غزة”؟
تلك “الأنفاق” التي استندت بحب وقوة ووفاء وإخلاص، على مقولة صلاح الدين تلك، فاحتوت في بطنها من يمحون الأن تاريخا كذوبا خؤونا غشوما، ويثبتون مكانه تاريخا جديدا كبيرا جليلا.. واستمر بسواعدهم الجهاد.
أولئك الذين سيحكون عنهم الحكايات وسيروون عنهم المأثورات وسيكتبون عنهم اعظم شهادات.. إنهم “فتية الأنفاق”.
أولئك الذين ستخلدهم الأمة في كتابها المُدون، شرفا وعزا وإباء، وبما يقترب من “فتية الأخدود” و”فتية الكهف”، الذين ذكرهم كتابها المُنزل من رب العالمين.
صحيفة التايمز البريطانية هي التي ستخبرنا عن علاقة كل هذا بعضه ببعض.. ففي حوار أجرته في فبراير الماضي مع مايكل كوبي (78 سنة) المدير السابق للتحقيقات في جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (شين بيت) والذي قضى 150 ساعة في حوارات مع (يحيى السنوار) قبل أكثر من 30 عاما كما قالت الصحيفة.. والذى قال عن الحاج يحيى: أنه يرى نفسه (صلاح الدين) جديدا.
سنتصور طبعا أن السيد مايكل على دراية تامة و”سامة” بالتأكيد بتاريخ الأمة، ويعرف ماذا يمثل صلاح الدين في الوعى العام لهذه الأمة.. وماذا يمثله أكثر في الوعى العميق للحاج يحيى.
وإذا كان لنا أن نكمل جملة ناقصة له، فستكون الجملة التي ذكرها المؤرخون عن صلاح الدين أنه (القائد العظيم جدا، الذى جاء في الوقت السيئ جدا، ليواجه العدو الأخطر جدا، ليحرر القدس والمسجد الأقصى) والتي تكاد تُستنسخ استنساخا في مجال الفعل التاريخي على الحاج يحيى كله بالفعل جدا جدا جدا .. القيادة عظيمة جدا، الوقت سيئ جدا، العدو الأخطر جدا لكن الحاج يحيى فعلها.. وأخبرنا عن كل شيء، لكن للأسف كانت تصوراتنا بعيدة عن تصوره، فهذه هي المرة الأولى التي تكون فيها المقاومة في حالة هجوم حقيقي فاعل ذو بعد استراتيجي وليس مرحليا، الرجل هشّم حواجز الخوف الكذوبة، وقدم الجانب الاستراتيجي على المرحلي، كانت زاوية النظر التي يفكر منها تختلف تماما عن الزاوية التي يفكر بها من اعتادوا الهزيمة.
ولهذا لم يندهش أحدٌ من رسالته المسربة التي نشرتها صحيفة (وول ستريت جورنال) في 28 فبراير الماضي وقال فيها أن: كتائب القسام ماضية في عملية تهشيم الجيش الصهيوني.. الإسرائيليون موجودون بالضبط حيث نريدهم.. كما قال: أن قيادة ومقاتلي القسام في حالة جيدة ومستعدون للهجوم في رفح.. إنه الإيمان صادقا متدفقا، يحطم كل القيود، ويقف صلبا منيعا ضد كل القوى الخائرة وكل الذكريات المؤلمة.
هذا كله سيأخذنا ويأخذ التاريخ إلى ما هو جديد تماما.. سنسمع لإيلان بابيه (70سنة) أحد أشهر المؤرخين الإسرائيليين يقول بعد 7 أكتوبر: نحن نشهد نهاية الصهيونية، وهي المرحلة الأخطر ولذلك ستكون شديدة القسوة والعنف.. لأنها تقاتل للبقاء، وهى بحق المرحلة الأحلك في تاريخ فلسطين والمنطقة، لكنه الظلام الذي يسبق الفجر..
ماثيو ميلر (51 سنة) المتحدث باسم الخارجية الأمريكية قال هو أيضا كل شيء، قال: نحن نريد أن نقضي على حماس كفكر في عقول الناس، نسعى للقضاء على الفكرة نفسها في داخل الشعب، وهذا سيستغرق وقتا طويلا ولذلك فالحرب ليست عسكرية فقط.
إنها لحظات الاكتشاف والانكشاف، هذا الكلام أكثر خطورة، ليس فقط في توصيف المشهد، ولكن في الجهة التي صرّحت به، وقد يحمل تفسيرا لفكرة الميناء الذى ستقيمه أمريكا على سواحل غزة بترتيب إقليمي/ عربي، وفى قلبه بالطبع إسرائيل، وسيكون معه ألف جندي أمريكي! أهلا وسهلا .. أمريكا قادمة إذن في الجولة القادمة بنفسها واسمها الصريح.
إنهم يتعجلون ما هو قادم بالفعل.. ولنمض إلى النهاية.. ذلك أن التاريخ يسير الأن في دورة جديدة تماما، أبرز عنوان لها هو تحطيم إرادتهم اللئيمة في صنع ما يحلو لهم، مضى وانقضى زمن ذاك التاريخ القديم، زمن استهلاك أوهام، تصاغ لنا، لنعيش عليها، حتى تصاغ لنا غيرها، صحيح أنهم لا زالوا وسيظلون يمكرون مكرا لتزول منه الجبال.
لكن “فتية الأنفاق” يعلمون علم اليقين، ويرون بعين اليقين، أن الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ألم يقل الرسول الكريم لمعاذ الحقيقة الأكمل عن رأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ و”فتية الأنفاق” قد علموا وقد عملوا.. وأحسنوا فيما عملوا.. وقضى الله ألا يضيع أجر من أحسن عملا.