يبدو أن الخلاف والانقسام السياسي حول مرشح الممانعة، رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية، ومنافسه الوزير السابق جهاد أزعور مرشح المعارضة، قد أغلق الباب أمام ما يُسمى “لبنانيًا” بـ”الخيار الرئاسي الثالث”. ومن ثم، يتكرر مشهد الفشل في انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان، للمرة الرابعة منذ استقلال البلاد عام 1943، بعد أن أخفق البرلمان اللبناني 13 مرة في اختيار رئيس، منذ انتهاء مدة الرئيس ميشال عون، في 31 أكتوبر 2022.
ومن ثم، ورغم الترحيب الإعلامي الذي قوبلت به، ورغم ردود الفعل الإيجابية على المبادرة التي أطلقتها كتلة “الاعتدال الوطني”، لأجل التخلص من حالة التأزم المستمر، في عملية انتخاب رئيس للجمهورية، إلا أن الواقع اللبناني يُشير إلى أن الوضع سيبقى على ما هو عليه، نتيجة الخلافات حول مرشح توافقي.
مجموعة من العوامل المتشابكة، تقف وراء فشل البرلمان اللبناني في انتخاب رئيس للبلاد، طوال ما يزيد على “16” شهرًا، منذ انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون.. أهمها ما يلي:
من جانب، تبدو فكرة “الثُلث” المُعطل، التي تأتي كأحد أهم العوامل في فشل مجلس النواب لاختيار مرشح لرئاسة الجمهورية، وكما يبدو، فإن ثمة إصرار من جانب القوى والكتل السياسية داخل المجلس، وكنتيجة لاختلافاتها السياسية، على استخدام هذه “الفكرة”، في عدم توفير النصاب القانوني بما يُعرقل انتخاب الرئيس.
ليس هذا فقط، بل هناك تكتيك آخر، يُضاف إلى تكتيك فكرة “الثُلث” المُعطل، ومقاطعة الجلسات، هو تكتيك التصويت بـ”ورقة بيضاء”؛ وهو التكتيك الذي استخدم طوال 13 جلسة، من جانب الثنائي الشيعي “حزب الله” و”حركة أمل”، إلى جانب نواب آخرين، وذلك لإخفاء “العدد الحقيقي” الذي سيُصوت للمرشح الذي يدعمونه سليمان فرنجية.
واللافت، أن السيناريو الذي طبع 13 جلسة لانتخاب رئيس للجمهورية، والذي تكرر طوال هذه الجلسات، وأدى إلى الفشل في الانتخاب، أو التوافق على مرشح رئاسي، هو تعمد رئاسة المجلس، التي يتولاها السياسي اللبناني المخضرم نبيه بري، في رفع الجلسة بعد التصويت، وخروج نواب “حزب الله” و”حركة أمل”، وحلفائهما، ما يُفقد الجلسة نصابها القانوني اللازم لانتخاب مرشح رئاسي. وهو ما يؤكد من جديد على إشكالية التركيب السياسي الحالي للمجلس النيابي.
من جانب آخر، تتبدى إشكالية التركيبة السياسية للبرلمان الحالي؛ إذ، لم تستطع أي كتلة سياسية إيصال المُرشح الذي تدعمه، إلى الرئاسة، دون ضرورة التوافق مع باقي القوى والكتل السياسية داخل المجلس النيابي. لذلك، لم يتمكن المجلس، طوال 16 شهرًا مضت، من انتخاب مرشح لرئاسة الجمهورية، كنتيجة للفشل في تأمين الأصوات الكافية لصالح أي مرشح؛ وفي الوقت نفسه، لفشل الأطراف السياسية في الاتفاق على “مرشح تسوية”، كما حدث أكثر من مرة في السابق.
فبالرغم مما ينص عليه الدستور اللبناني، من أن رئيس الجمهورية “يُنتخب بالاقتراع السري بغالبية الثُلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى، ويكتفي بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي…”، إلا أن تركيبة المجلس النيابي الحالي، ساعدت على عدم امتلاك أي من القوى والكتل السياسية داخل البرلمان، الأغلبية المطلقة أو الوازنة، التي تؤهلها لإنجاز الاستحقاق الرئاسي.
من جانب أخير، يأتي عدم الالتزام بمواد الدستور اللبناني، كأحد العوامل الهامة في فشل البرلمان في انتخاب الرئيس؛ إذ يبدو أن عنوان المرحلة التي يمر بها لبنان، التي تمتد من تاريخ الشغور الرئاسي إلى الآن، هو “الإطاحة بالدستور ومواده”. فبالرغم من أن المادة 49 من الدستور اللبناني، تنص على “جلسة انتخاب واحدة وبدورات متتالية”، إلا أن “إقفال محضر كل جلسة انتخاب”، نتيجة عدم التوافق بين الكتل السياسية داخل البرلمان، على شخصية المرشح لرئاسة الجمهورية؛ يأتي دافعًا للإطاحة بهذه القاعدة الراسخة.
بل، إن الإطاحة بالدستور ومواده، لم تتوقف عند حدود مجلس النواب، ولكنها امتدت إلى أجزاء من عمل الحكومة؛ ففي حالة الشغور الرئاسي، تتولى الحكومة صلاحيات رئيس الجمهورية، استنادًا إلى ما ينص عليه الدستور اللبناني؛ ولكن رغم ذلك، فإن الواقع يُشير إلى أن الحكومة اللبنانية الحالية، ليست حكومة مكتملة الصلاحيات، نتيجة كونها تُعتبر “مُستقيلة” حُكمًا، منذ انتخاب البرلمان، في 20 مايو 2022، فضلا عن فشل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في تأليفها قبل انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون.
لا يعود فشل البرلمان اللبناني في اختيار مرشح رئاسي للبلاد، إلى العوامل السابقة وحسب؛ ولكن أيضا نتيجة الرفض المتبادل بين الممانعة والمعارضة، حول المرشحين.
فمن ناحية، هناك رفض الخيار الرئاسي “الثالث” من جانب “الممانعة”؛ إذ، يُصر تيار الممانعة، الذي يتمثل في الثنائي اللبناني الشيعي، على موقفه بدعم ترشيح سليمان فرنجية، وأن الثنائي وحلفاءه ليس في وارد التخلي عن هذا الترشيح؛ بما يعني رفض الحزب والحركة أي صيغة للبحث عما يُسمى في لبنان “الخيار الرئاسي الثالث”.
والمُلاحظ، أن حزب الله تحديدًا لديه، كما يتردد عبر بعض وسائل الإعلام اللبنانية المحلية، عدد من الهواجس، دفعته إلى الدخول على خط إفشال، أو محاولة إفشال، مبادرة “كتلة الاعتدال” لإنجاز الاستحقاق الأهم في لبنان، أي انتخاب رئيس للجمهورية. يبدو ذلك عبر الدعم الذي تلقته هذه المبادرة مما يُطلق عليه مجموعة “الخماسية”، أي كل من الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا ومصر والمملكة العربية السعودية وقطر؛ وهو نفسه الدعم الذي يُقلق الحزب “تخوفًا” كما يُعلن دائمًا، من مجيء رئيس “لا يدعم المقاومة”.
من ناحية أخرى، هناك رفض مرشح الثنائي الشيعي من جانب “المعارضة”؛ فمع التوافق بين الثنائي اللبناني الشيعي وحلفائه، على دعم سليمان فرنجية، حفيد رئيس الجمهورية الراحل “سليمان فرنجية”، مرشحا عن تحالف “الثامن من آذار” لرئاسة الجمهورية؛ يأتي الاعتراض من جانب ما يُطلق عليه تيار “المعارضة”، الذي يتمثل بالأصل في التيار الوطني الحر الذي يتزعمه جبران باسيل؛ بل إن هذا الاعتراض يلقى قبولا إضافيا، من الأغلبية المسيحية اللبنانية، ومن بينها حزب القوات اللبنانية الذي يترأسه سمير جعجع، وذلك استنادا إلى رفض تكرار تجربة الرئيس اللبناني السابق ميشال عون، في ظل تحالفات سليمان فرنجية الإقليمية، عبر التقارب مع إيران ومع الرئيس السوري بشار الأسد.
في هذا السياق، يُمكن القول بأن الفشل في اختيار مرشح رئاسي للبلاد، ستظل مستمرة إلى حين التوافق على شخصية، سوف تشغل هذا المنصب للمرة “الرابعة عشرة” في تاريخ لبنان. إلا أنه، في ظل احتياج البرلمان إلى أصوات “65” عضوًا لانتخاب رئيس جديد، خلفًا للرئيس ميشال عون، يبدو الأمر صعبًا، نتيجة الاختلاف المستمر بين القوى والكتل السياسية، داخل مجلس النواب، بشأن انتخاب مرشح رئاسي؛ أو التوافق على مرشح توافقي، كـ”اختيار ثالث”؛ إذ، من دون هذا التوافق، سيبقة الشغور الرئاسي قائمًا، كما تكرر في مرات متعددة من تاريخ لبنان، منذ تأسيسه في أربعينات القرن الماضي.