عام

الجزائر تعيد فتح سفارتها في كييف.. نهج متوازن وتكيف دبلوماسي

تكيفًا مع المناخ العام السائد في أوروبا وآسيا، ولاسيما الوضع المتأزم في أوكرانيا، منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، في 24 فبراير 2022؛ أعادت الجزائر فتح سفارتها في العاصمة الأوكرانية كييف، كخطوة تؤشر إلى محاولة الجزائر في “التكيف الدبلوماسي”، الذي يأتي ضمن النطاق الأوسع لنهج التوازن بين المحاور الدولية المختلفة، خاصة مع ارتباط الجزائر بعلاقات استراتيجية بطرفي النزاع، سواء المحور الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الأوروبية، أو الطرف الروسي والدائرة المتفاعلة معه، خاصة الصين وإيران.

وكان الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، قد أعلن في لقاءٍ مع وسائل إعلام جزائرية، بثه التلفزيون الرسمي، في 24 فبراير الماضي، عن إعادة فتح سفارة بلاده في أوكرانيا، رغم العلاقات القوية للجزائر مع روسيا على كافة لأصعدة؛ مؤكدًا أنه “اتخذ القرار مع وزير الشئون الخارجية والجالية الوطنية بالخارج، وسنقوم على أساسه بإعادة فتح سفارة الجزائر في كييف، بعد عام من إغلاقها بسبب العملية العسكرية الروسية بأوكرانيا”.

توازن مرن

كما يبدو، فقد تبنت الجزائر، منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية، مُقاربة متوازنة تجاه أطراف الأزمة، عبر نهج “التوازن المرن”، بما يضمن عدم الدخول في سياسة المحاور.. من خلال عددٍ من المؤشرات، لعل أهمها ما يلي:

من جانب، تجنب التصويت ضد روسيا في الأمم المتحدة؛ إذ لم تبد الجزائر موقفًا سياسيًا رسميًا من الحرب الروسية الأوكرانية، سواء بالتأييد أو الإدانة؛ وركزت كافة البيانات الصادرة عن وزارة الخارجية الجزائرية، على أوضاع الجالية الجزائرية في أوكرانيا ومدى إمكانية مساعدتهم على العودة إلى البلاد.

ومثلما تجنبت الجزائر الانخراط في الأزمة، أو الاصطفاف إلى جانب أحد محاورها، فقد تجنبت التصويت ضد روسيا في الأمم المتحدة. إذ امتنعت الجزائر عن التصويت، إلى جانب 34 دولة أخرى خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 2 مارس 2022، على مشروع القرار الأمريكي الأوروبي الخاص بإدانة الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا. أيضًا، عارضت الجزائر، في أبريل الماضي، 2022، قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، بشأن “تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان”. وفسرت الجزائر هذه المعارضة، بتأكيد أن “الجهود الدولية المتعددة الأطراف تستوجب الحوار بعيدًا عن أي إقصاء”.

من جانب آخر، رفض منظومة العقوبات الغربية على موسكو؛ فاتساقًا مع موقفها الأساسي من الحرب الروسية الأوكرانية، فقد تجنبت الجزائر الانضمام إلى منظومة العقوبات الغربية على موسكو. وقد تبدى ذلك بوضوح، عبر استضافة الجزائر لوزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، في مايو الفائت؛ الذي أكد على تقدير بلاده “للموقف الجزائري من الحرب في أوكرانيا، في الأروقة العربية والدولية”.

رفض الجزائر الانضمام إلى منظومة العقوبات الغربية على موسكو، بدا منطقيًا، للتعاون الكبير بين البلدين في كثير من المجالات. ففي قطاع الطاقة قامت الجزائر بتعزيز قدراتها على تصدير الغاز الطبيعي، عبر التعاون مع روسيا؛ وقد وقعت شركة سوناطراك الجزائرية، عقدًا للبحث عن الغاز واستغلاله في منطقة “حقل العسل” بالصحراء الجزائرية؛ حيث من المأمول دخول هذا المشروع حيز الإنتاج خلال عام 2025.

من جانب أخير، الحفاظ على العلاقات مع أوكرانيا والغرب؛ حيث لا يمكن عزل التحركات الجزائرية في الملف الأوكراني، عن معادلة العلاقات الجزائرية الغربية؛ إذ يبدو أن الجزائر تستخدم الملف الأوكراني وتداعياته، وكذلك العلاقات مع روسيا، من أجل إدارة العلاقات مع الدول الغربية؛ خاصة مع التوترات التي شهدتها هذه العلاقات خلال السنوات الأخيرة، ولعل النموذج الأبرز على ذلك هو العلاقات الجزائرية الفرنسية.

وفي الوقت نفسه، تعد روسيا ورقة مهمة للجزائر في علاقتها مع الولايات المتحدة الأمريكية؛ خاصة أن الأخيرة اتخذت، من المنظور الجزائري، سياسات مُنحازة إلى المغرب خلال السنوات الأخيرة، فيما يتعلق بملف الصحراء الغربية. ومن ثم، فقد أوجدت الحرب الروسية الأوكرانية فرصة للجزائر، في سعيها إلى “تحدي العزلة” الذي واجهته مع دول الغرب، خلال السنوات القليلة الماضية؛ حيث يبدو أن هذه الحرب تُمثل فرصة مهمة للجزائر، لتستعيد أهميتها في نظر الولايات المتحدة، في الوقت الذي تُبقي فيه على قنوات الاتصال مفتوحة، مع روسيا، ومع الصين وإيران.

 مكاسب استراتيجية

عبر تعاطيها “المتوازن” مع الحرب الروسية الأوكرانية، تسعى الجزائر إلى تعظيم مكاسبها، خاصة الاستراتيجية منها.. وذلك على النحو التالي:

من جهة، تنويع المُقاربات السياسية الخارجية للجزائر؛ لعل المتابع للموقف الجزائري من الحرب، بشكل عام، يجد أن هذا الموقف يأتي استمرارًا لمحاولة الرئيس الجزائري، في “تنويع المُقاربات السياسية الخارجية”، وتجاوز فكرة التبعية للمحور الغربي،  خصوصًا فرنسا؛ وهو النهج الذي ساد خلال حقبة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.

لكن اللافت، أن الجزائر في الوقت الذي وقعت فيه مع روسيا، خلال العام 2021، بحسب موقع “أر تي عربي” في 27 أكتوبر 2022، صفقات سلاح تجاوزت قيمتها 7 مليارات دولار، وتحولت بها إلى أهم مستورد للأسلحة الروسية؛ إلا أنها، في الوقت نفسه، أجْرَتْ تدريبات مشتركة مع إحدى السفن الحربية الأمريكية، التي رست في ميناء “جيجل” شرق الجزائر، لتنفيذ التدريب المشترك، خلال الفترة 14-19 سبتمبر الماضي، الذي جاء تحت عنوان “تبادل الخبرات في مجال نزع الألغام”، وذلك وفقًا لما أعلنته وزارة الدفاع الجزائرية، في 14 سبتمبر الماضي.

من جهة أخرى، تفعيل الدور الجزائري إقليميًا ودوليًا؛ ففي أعقاب التغيرات السياسية التي شهدتها الجزائر، منذ نهاية عام 2018، وما تبعها من الإطاحة بنظام “بوتفليقة”، وتولي الرئيس عبد المجيد تبون السلطة، في عام 2019، حملت السياسة الخارجية للجزائر ملامح بارزة تتضح أهم معالمها في محاولة تفعيل مكانتها كـ”فاعل إقليمي” في شمال أفريقيا وجنوب المتوسط. إذ، في إطار كافة تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وخاصة تلك المتعلقة بمجالات الطاقة؛ تبدو محاولات الجزائر في تصدر المشهد كـ”فاعل”، حيوي ومؤثر، سواء بالنسبة لدول جوارها الجغرافي، في شمال أفريقيا ومنطقة الساحل الأفريقي، أو بالنسبة إلى دول جنوب أوروبا.

من جهة أخيرة، تعزير الشراكة مع أوروبا في ملف الطاقة؛ حيث كانت الحرب في أوكرانيا، ضمن أهم الأسباب في النظر الأوروبي إلى الجزائر، باعتبارها مصدرًا آمنًا للحصول على الطاقة؛ وذلك في ضوء احتياطيات الجزائر الضخمة، خاصة من الغاز الطبيعي، وقربها الجغرافي من جنوب أوروبا؛ حيث تُعتبر ثالث أكبر مُصدر للغاز الطبيعي إلى الاتحاد الأوروبي. وقد أكدت مفوضة الاتحاد الأوروبي للطاقة، كادري سيمسون، في ختام منتدى أعمال الطاقة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي، في 11 أكتوبر الماضي، أن “أوروبا تُريد شراكة استراتيجية طويلة الأمد مع الجزائر، كمورد موثوق به للغاز إلى أوروبا”.

ويبدو أن هذه الرؤية الأوروبية، تتفق مع ما تسعى إليه الجزائر؛ حيث أعرب المسئولون الجزائريون، في أكثر من مناسبة، عن سعي بلادهم “لبناء شراكة مع أوروبا تكون ذات جدوى أكبر، ويمكن الاستفادة منها بشكل أوسع”؛ بما يُشير إلى أن الشراكة لا يجب أن تكون مؤقتة وتابعة للظروف، كما هو حاصل الآن، بل يجب أن تقوم على استراتيجية بعيدة المدى.

حياد مُعلن

في هذا السياق، يمكن القول بأن إعادة فتح السفارة الجزائرية في العاصمة الأوكرانية كييف، إنما يأتي تكيفًا دبلوماسيًا، مع المناخ العام السائد دوليًا، منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها؛ وهو التكيف الذي يأتي ضمن النطاق الأوسع لنهج التوازن بين المحاور الدولية المختلفة، الذي تحاوله الجزائر، خاصة مع ارتباطها بعلاقات استراتيجية بطرفي النزاع، لأجل تعظيم دورها في المشهد الإقليمي والدولي، خاصة مع تحولها إلى وجهة “طاقوية” آمنة ومحتملة بالنسبة للدول الأوروبية.

نهج التوازن المرن، الذي يمكن التعبير عنه بأنه “حياد مُعلن” من جانب الجزائر، ساهم في نجاحها في إدارة علاقاتها، ليس فقط مع روسيا والدائرة الآسيوية، ولكن أيضًا مع الدول الغربية عامة، وخاصة تلك التي كانت تتسم علاقاتها معها بالتوتر خلال السنوات القليلة الماضية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock