ثقافة

الأدب عرَّاب فهم أغوار النفس البشرية.. قراءة في علاقة علم النفس بالأدب (1-2)

”الأدب موضوعه الإنسان في ذاته وفي استجابته لما حوله، وهو في هذا شبيه بعلم النفس، ولكن ثمة فرق جوهري بينهما هو: أن علم النفس يتناول الظواهر العامة، أما الأدب فهدفه الأول إدراك العنصر الفردي المميز لكل إنسان عن أخيه“. (محمد مندور: في الأدب والنقد، 1949).

”إن الشعور بالتوتر يقوم بنفوسنا نتيجة لوجود حاجة قوية من جراء الشعور بنقص ما أو بعدم التناسق أو شيء من هذا القبيل. فكان بداية التفكير الإبداعي هو شعور بمشكلة والبحث عن حل بطريقة غير مألوفة ولا معروفة من قبل الناس العاديين. ومع أن هذه الأفكار المقتضبة تعالج مسألة الإبداع عموما، فإنها تتضمن إشارة إلى الإبداع الفني. فالمبدع الفني (في الأدب) يتحسس مشكلة أو موضوعا ما ربما قبل غيره، ثم يعبر عنها بأسلوب خاص وفريد فيه جدة وفيه تأثير لا يضاهيه أديب عادي آخر. إن الأديب عندما يتجاوز إنجازه إنجاز كل شخص آخر ويخرق القواعد والأنماط المألوفة في الأسلوب والتفكير والتعبير، فلا بد إلا أن يكون متمتعا بقدرات فائقة ليست موجودة عند غيره من البشر العاديين، ولديه دافع قوي جدا ومُلِح يدفعه للإنجاز في موضوعه وبالتالي لتكوين تلك القدرات الخارقة“ (خير الله عصّار: مقدمة لعلم النفس الأدبي، 2008).

”إن العلاقة بين علم النفس والأدب علاقة قديمة وجدلية ومتشابكة ومن المفترض أن تكون علاقة تفاعل وتبادل واستمرارية؛ ذلك لأن الأديب يستفيد من نتائج دراسات ونظريات علم النفس، وكذلك علم النفس يستفيد من نتائج العملية الإبداعية في كافة مناحيها، ونؤكد أن فرويد ما كان له أن يكتشف كل هذه الاكتشافات التي شكلت محاور وأعمدة أساسية في نظرية التحليل النفسي لولا أنه قرأ وطالع الأساطير والآداب القديمة سواء اليونانية أو المصرية أو الهندية او الصينية“ (محمد حسن غانم: علم النفس والأدب ” أسئلة حائرة وإجابات مراوغة “، 2019).

إن النور المعرفي الذي قدمته الدراسات النفسية والاجتماعية للإنسان لم تكن كافية لكشف حقيقة الإنسان. وإن مجموع ما قدمته البشرية من جهود لدراسة الإنسان يعتبر جزءا صغيرا مما تقدمه لدراسة الجانب المادي من الوجود: الطبيعة وقوانينها والتطبيقات العملية الناجمة عن ذلك. بهذا الصدد يُعلّق أحد علماء النفس قائلا (إن لعلم النفس ماضيا طويلا وتاريخا قصيرا). القصد من هذا القول هو أن المحاولات لفهم الإنسان من طرف الإنسان بصورة شخصية في سياق الحياة اليومية والتفاعلات الاجتماعية.. قديمة قِدَمَ الإنسان. إن كل كائن بشري مهما كان عمره أو مستواه الثقافي أو الاجتماعي أو الذكائي يملك معلومات ما حول الأحوال النفسية وسلوك أخيه الإنسان بهدف فهمه أو السيطرة عليه أو لإرضائه واسعاده، … إلخ. بيد أن عمر المحاولات العلمية المقننة والمنظمة والتي تعتمد على محاولة للتنظير وأخرى للتجريب والتدقيق قصيرة جدا، قد لا يتجاوز عمرها القرن الواحد.

تتداخل العلاقة بين علم النفس والأدب، وتصل إلى حافة الصراع والتنافس حول تفسير السلوك الإنساني، واكتشاف أسرار النفس البشرية، وتأخذ طابعا جدليا حول من أسبق من الثاني في نبش جذور ودوافع هذه الأسرار، خاصةً أن أعمالا أدبية شهيرة شكلت عتبة مهمة أمام الطبيب النفسي لمعرفة حقيقة المرض، والوقوف على مظاهره وأبعاده.

يُعرف علم النفس الأدبي بأنه فرع من فروع علم النفس العام يهتم بدراسة إنتاج أي مادة من المواد التي اصطلح على إدراجها في مجال الأدب، من قبيل القصة القصيرة والقصيدة والرواية والمسرحية والشعر المسرحي، وتحليل العناصر المشتركة بينهما. أي إنه هو مجال متعدد التخصصات يطبق مبادئ علم النفس، بما في ذلك نظرية الشخصية والعمليات المعرفية، على تحليل النصوص الأدبية. ويهتم بكيفية إدراك الشخصيات والرواة والمؤلفين وتفسيرهم وتمثيلهم للتجربة الإنسانية والسلوك والعمليات العقلية. ويجمع هذا المجال من الدراسة بين نظريات وأساليب من علم النفس واللسانيات والنقد الأدبي لفحص العلاقة بين الظواهر النفسية والتمثيل الأدبي لتلك الظواهر. بمعنى آخر هو دراسة السلوك البشري والعواطف والعمليات العقلية كما صُوّرَت في الأدب. وهو يدرس الطريقة التي تتصرف بها الشخصيات في القصة وتفكر، وكيف تتأثر أفعالهم وأفكارهم بتجاربهم وتفاعلاتهم. يسعى هذا المجال من الدراسة إلى تحليل وتفسير الجوانب النفسية للأدب، بما في ذلك تنمية الشخصية والموضوعات.

خلاصة القول، يشير علم النفس الأدبي إلى استخدام المبادئ والمفاهيم والنظريات النفسية في تحليل وتفسير الأدب. وهو يتضمن فحص الجوانب النفسية للشخصيات والموضوعات والهياكل السردية من أجل فهم أفضل للتجربة الإنسانية كما صُوّرَت من خلال الأدب. بعبارة أدق، هو دراسة كيفية إظهار الشخصيات في الأدب للسمات والسلوكيات والأنماط النفسية. يدرس العمليات العقلية والدوافع والعواطف للشخصيات، وكيفية تأثيرها على حبكة القصة وموضوعاتها. ويتضمن أيضا تحليل كيفية استخدام المؤلفين للتقنيات الأدبية لإنشاء شخصيات واقعية نفسيا واستكشاف السلوك البشري والعواطف.

إلا أن هناك أسبقية للأدب على علم النفس في كشف مجاهل النفس الإنسانية، والدليل على ذلك استعانة فرويد بالأديب نفسه، حيث جعله خير عون له للوصول إلى نظريته الخاصة بعالم اللاوعي، والتماس الأدلة على وجوده والدفاع عنه. وقد استعان على ذلك بكثير من الأعمال والروايات لشكسبير وجوته وغيرهما. ولم يقتصر فرويد على اتخاذ الأعمال الأدبية وسيلة لشرح محتويات علم النفس، وتنظيم عناصرها، وإنما اتخذها كذلك مادة يستعين بها لاستخلاص النتائج العلاجية التي توخاها بصفته طبيبا نفسيا. ويذكر فرويد أنه في عالم اللاوعي تختزن التجارب البعيدة التي يراد لها أن تُنسى إلا أنه لا يمكن التعبير عنها لأن المجتمع لا يقبل ذلك لأن هذه التجارب تسعى إلى الخروج في أشكال ورموز مختلفة، ولذا فإن الأديب عند فرويد يشبه الطفل في أنه يخلق لنفسه عالما من الوهم، ويعامله بغاية الجدية والاهتمام، ويودعه كل ما لديه من عاطفة، ويفصله عن العالم الواقعي المحسوس، وكذلك يفعل الطفل في لعبه.

إن الباحث في علم النفس (مثلا) يتحدث عن الخيال أو العاطفة أو الغريزة كظواهر عامة تشمل الإنسانية كلها، وأما الأديب فإن كان شاعرا تغنَّى بإحساسه الخاص، وإن كان قصصيا صوَّر شخصيات يبرز ما فيها من أصالة، حتى إنه ليفرق بين أنواع الشخصيات التي تشترك في لون واحد عام، فتصوير البخيل في رواية “موليير” مثلا غيره في رواية “أوجين جرانديه” لهونوريه دي بلزاك (1799-1850)، فكل كاتب يختار نواحي من البخل، وحركات خاصة تنم عنه غير ما اختاره الآخر.

فاستخدام علم النفس في نقد الأدب يجب أن يكون في حذر، لأنك بذلك قد تذهب بالأصالة الموجودة في العمل الأدبي، فتفهم الشخصية الروائية أو تحليل نفسية الشاعر على ضوء قوانين نفسية عامة، لا يصدق إلا في التخطيطات الكلية، وذلك لأن النفوس البشرية يستحيل أن تتطابق تطابقا تاما، فهي ليست أوراق شجر، بل إن أوراق الشجر ذاتها لا يصدق عليها مثل هذا التطابق، ومن هنا لا نستطيع أن نلبس هذه الشخصية الروائية أو تلك أثوابا مجردة يحكيها علم النفس، عندما يستخلص صفات عامة لملكات البشرية المختلفة. فالخيال عند شخصية مفردة لا يمكن أن يكون ذلك الخيال العام الذي يتحدث عنه علم النفس، ولا بد أن يتميز عند تلك الشخصية المفردة بميزات خاصة ترجع إلى عناصر لا حصر لها من الوراثة العضوية والبيئية الطبيعية والاجتماعية، بل وتفاعل ما نسميه خيالا مع الملكات الأخرى، على نحو لا يزال الغموض يكتنف الكثير من جوانبه. إذن علم النفس قد يساعد في فهم نفسية الكُتَّاب وتحليل الشخصيات الروائية التي يخلقها أولئك الكتاب، ولكنه قد يضللنا أيضا في ذلك الفهم أو  التحليل.

وهذا يعني أن علم النفس على ارتباط وثيق بالأدب (تأثر وتأثير) باعتبارهما من أهم العلوم الإنسانية التي تهدف إلى تجذير معرفة الإنسان بوجوده، وتحليل علاقته بالكائنات الحية والأنظمة الاجتماعية وعناصر الطبيعة. ومن أبرز الأمثلة على تأثير الأدب في علم النفس، رواية “لوليتا” (1955)، للروائي الروسي – الأمريكي فلاديمير نابوكوف (1899 – 1977)، وقد تحولت إلى فيلم سينمائي صدر في سنة 1962، من إخراج الأمريكي ستانلي كوبريك (1928 – 1999) الذي يعتبره الكثير واحدا من أعظم صناع الأفلام في التاريخ.

فقد أبرزت الرواية مواضيع مثيرة للجدل، ومنعت في الكثير من البلدان بوصفها تتناول حالة مخالفة للقانون، وسلوكا يعتبر تحرش جنسي بالأطفال، فبطل الرواية “همبرت همبرت” هو أستاذ أدب في منتصف العمر، مريض بشهوة المراهقين، يرتبط بعلاقة جنسية مع الفتاة دولوريس هيز ذات الاثني عشر عاما، بعد أن أصبح زوجا لأمها، و”لوليتا” هو لقب دولوريس الخاص.

يعتمد أسلوب المؤلف في هذه الرواية على السرد الذاتي، حيث يروي “همبرت همبرت” قصته مع دولوريس من جانب واحد، كاشفا عن مشاعره الذاتية وأحاسيسه الشخصية، محاولا كسب تعاطف القارئ، وهذه العلاقة المتوترة تنتهي بشكل مأساوي. وقد قدمت الرواية تحليلا نفسيا للهوس الجنسي بالصغيرات (البيدوفيليا).

أصبحت عقدة لوليتا (عقدة الحرمان الكبير) من أشهر العقد النفسية بين المراهقات، وهي وقوع الفتاة في حب رجل يكبرها بضعف عمرها على الأقل، أو في عمر أبيها، ليس هذا فقط، بل إنها كذلك تحاول لفت نظره وجذب انتباهه بكل ما تملكه من قدرة على فعل ذلك. وغالبا ما يكون السبب وراء ذلك هو حرمانها من والدها في الطفولة، أو فقدانها لاهتمامه. وبما أنها لم تجد الاهتمام داخل البيت، فإنها تبحث عنه خارج البيت. وهذا بشكل دائم يرجع إلى أسباب نفسية عند الفتاة أو أسباب اجتماعية تتعلق بالمادة. والجدير بالذكر أن ملء الفراغ العاطفي يبدأ من داخل الإنسان.

في حقيقة الأمر. إن علم النفس الأدبي تخصص جديد نسبيا. توجد جامعات لا تعترف بهذا الاختصاص، ولا تدرسه لأسباب كثيرة يعود بعضها إلى مسألة التفسير الجنسي لبعض دوافع الأدباء. وبالطبع يعتبر ذلك في نظر البعض محرما إذا لم نقل سوقيا وبذيئا. بعبارة أخرى، إن علم النفس الأدبي مادة جديدة، وهي تدخل قاعات المحاضرات كمقرر قائم بذاته ببطء كبير .

حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة قسم علم الاجتماع - كلية الآداب في جامعة ماردين - حلب سابقاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock