فن

صلاح السعدني.. حضور لا يعرف الغياب

ودعت مصر والعالم العربي اليوم، الفنان صلاح السعدني بعد رحلة فنية بالغة الثراء، كان خلالها نموذجا فريدا للفنان الملتزم بقضايا وطنه وأمته.. شارك الفنان الراحل في أكثر من مئتي عمل، تنوعت بين السينما والدراما التليفزيونية والمسرح والإذاعة، وكان إسهامه الأهم في الدراما التليفزيونية، خاصة أعمال الكاتب أسامة أنور عكاشة التي أخرجها إسماعيل عبد الحافظ.. وكان أشهر أدوار الفنان الدرامية، دور العمدة “سليمان غانم” في مسلسل “ليالي الحلمية” الذي بدء عرضه عام 1987، ووصل إلى ستة أجزاء شارك السعدني في 5 أجزاء منها.

البداية كانت في المسرح من خلال عدة أعمال منها: “لوكاندة الفردوس”، و”الجيل اللي جاي”، و”الدخان”.. إلى أن واتت الفنان فرصة التألق من خلال دور “أبو المكارم” الشاب الأخرس البسيط في مسلسل “الضحية” عام 1964، ما أتاح له المشاركة في دور أهم في العام التالي في مسلسل “لا تطفئ الشمس” وهو دور “ممدوح” الشاب الطموح الذي يحلم بأن يكون له مشروع خاص، لكن اندفاعه يجعله يصطدم بأخيه الأكبر قبل أن يفقد حياته في حادث أليم.

ثم كانت مشاركته في مسلسل “القاهرة والناس” الذي بدأ عرضه عام 1967، وشارك فيه معظم ممثلي مصر آنذاك من كل الأجيال.. وقد حقق المسلسل نجاحا كبيرا فاق كل التوقعات.

يعتبر دور “علواني” الفلاح المُعدم في فيلم “الأرض” إنتاج 1970، من أهم علامات المسيرة الفنية للسعدني؛ لأسباب عديدة منها.. أهمية الفيلم وقيمته الفنية التي وضعته في المرتبة الثانية في قائمة أفضل الأفلام المصرية، جاء أداء السعدني طبيعيا وتلقائيا على أفضل ما يكون، وبرزت خفة ظل الفنان وروحه المرحة، خاصة مشاهده مع الفنان عبد الرحمن الخميسي التي كانت عبارة عن مفاوضات صعبة، للحصول على القليل من الشاي والسكر والدخان على سبيل الدَّيْن الذي يُؤدَى حين ميسرة.

في “أغنية على الممر” لعلي عبد الخالق، نجح السعدني في أداء دور مسعد المجند “الدمياطي” الذي يصمد مع زملائه في الدفاع عن موقعهم، بعد هزيمة الخامس من يونيو.. ورغم حب مسعد الشديد للحياة ولخطيبته التي يحلم بيوم زواجه منها، وماذا سيأكل في ليلة العُرس-إلا أن ذلك لم يحل دون إصراره على الدفاع ببسالة عن الموقع، حتى نال الشهادة.. أداء السعدني المتقن للشخصية الدمياطية، جعل البعض يتصور أنه أحد أبناء المدينة التاريخية.

خلال عقد السبعينات شارك السعدني في العديد من الأفلام التي غلب عليها الطابع التجاري، ولم تكن هذه الأفلام لتمنح الفنان الفرصة لإبراز موهبته نذكر منها: “أعظم طفل في العالم”، و”شلة المشاغبين”، و”شقة في وسط البلد”، و”شهيرة”، و”بائعة الحب”، و”هكذا الأيام”، و”قلوب في بحر الدموع” و”حكمتك يا رب”، و”طائر الليل الحزين”.. وغيرها من الأفلام التي انطبعت بالظرف السياسي والتحول الجذري خلال تلك الفترة؛ خاصة فيلم “الرصاصة لا تزال في جيبي”- أدى السعدني فيه شخصية المجند الأرستقراطي رءوف- الذي تناول حرب أكتوبر المجيدة من منظور الإساءة البالغة، وغير الموضوعية للحقبة الناصرية.

أكدت مشاركات الفنان صلاح السعدني السينمائية خلال تلك الفترة أن البطولة المطلقة بعيدة؛ رغم أن السعدني لا ينقصه شيء ليحصل عليها، لكن مقاييس “الجان بروميير” في تلك الحقبة كانت غير منصفة، وتعتمد على الشكل في المقام الأول دون أدنى اعتبار للموهبة.

صلاح السعدني

لكن السعدني وجد ضالته في الأعمال درامية وفي البطولات الجماعية، فقدم أدوارا رائعة ما زالت الجماهير العربية تذكرها في مسلسلات مثل: “قطار منتصف الليل”، في دور طلعت، ودور الشاب جلال في مسلسل “الليلة الموعودة” من بطولة محمود مرسي وكريمة مختار، وقد حقق هذا المسلسل نجاحا كبيرا، وتحوّل إلى فيلم سينمائي أدى فيه الفنان أحمد زكي دور السعدني والفنان فريد شوقي دور محمود مرسي.. ونال الفيلم نجاحا كبيرا هو الآخر.

في نهاية عقد السبعينات تألق الفنان دراميا في دورين هما: دور “عاطف” الابن الأوسط في مسلسل “أبنائي الأعزاء شكرا”، ودور “عبده” في المسلس الشهير “الشوارع الخلفية” إلى جانب دوره في مسلس “الشاهد الوحيد”.

مع بداية عقد الثمانينات كان السعدني قد أوشك على إكمال عقده الرابع، وما زالت أعماله السينمائية وأدواره فيها في إطار البطولة الجماعية والأدوار الثانية، نذكر منها: فيلم “الوحش داخل إنسان”، وفيلم “خلف أسوار الجامعة”.. أما الدراما التليفزيونية فقد شهدت تألقه في دور “فتحي” في المسلسل الرائع، “ولسه باحلم بيوم” من بطولة النجم نور الشريف وإخراج يوسف مرزوق. وشارك السعدني أيضا في مسلسل “أبواب المدينة” الجزء الأول ومسلسل “وقال البحر” وكلاهما من تأليف أسامة أنور عكاشة.

عام 1983، شهد عملا متميزا للسعدني، وهو مسلسل “عصر الحب” في دور “حمدون”، بالإضافة إلى عدة أعمال أخرى متميزة منها فيلم “الغول” من بطولة عادل إمام وفريد شوقي.. بعد ذلك بعامين تألق الفنان في دور “محمود رشاد الجن” في الفيلم المتميز “قضية عم أحمد” من بطولة فريد شوقي وفاروق الفيشاوي.

ويعتبر عام 1985، عام التألق الفني للنجم الراحل؛ إذ شارك فيه في حوالي 12 عملا فنيا بالإضافة إلى الفيلم السابق ذكره منها: “فوزية البرجوازية”، من تأليف أحمد رجب.. وهو فيلم تليفزيوني كوميدي من بطولته بأداء بالغ الروعة لشخصية عبد الواحد، الشيوعي الذي يحلم مع زوجته بتحقيق مجتمع العدالة والكفاية في الحارة التي انتقالا للعيش فيها مؤخرا.. وفيلم “انحراف” وفيلم “أولاد الأصول” وفيلم “الموظفون في الأرض”.. كما شهد العام نفسه مشاركته في تجربة عاطف الطيب المتميزة وهي فيلم “الزمّار”، كما شهد العام التالي مشاركته المتميزة جدا في فيلم “ملف في الآداب” من إخراج الطيب أيضا، وقد أبدع السعدني في دور ضابط الآداب الذي يتسبب في مأساة لعدد من الموظفين والموظفات بعد تلفيق تهمة ممارسة أعمال منافية للآداب لهم.

ثم كانت العودة للدراما في نفس العام 1986، من خلال مسلسل من روائع الدراما المصرية من بطولته وبطولة العملاق محمود مرسي ومن تأليف المبدع وحيد حامد وإخراج سمير سيف، وهو “مسلسل سفر الأحلام”.

كما لا يجب أن ننسى دور السعدني في فيلم “شحاذون ونبلاء” من إخراج أسماء البكري عام 1991، أدي الفنان في هذا الفيلم دور “جوهر” أستاذ الفلسفة العدمي الذي قرر الانسحاب من العالم وترك وظيفته، والعيش على هامش المجتمع مع الفئات المعدمة والعمل لدى امرأة تدير أحد بيوت المتعة! ومع المخرجة نفسها قدّم في عام 1998، فيلما من الأفلام الجميلة التي لم تأخذ حقها أيضا، وهو فيلم “كونشرتو درب سعادة”.

ومن العلامات الهامة في مسيرة السعدني.. مسلسل “أرابيسك” الذي أتحفنا فيه بدور “حسن النعماني”.. وهو العمل الذي كتبه عكاشة أيضا وناقش فيه موضوع هوية مصر.. وقد عُرض المسلسل شهر رمضان عام 1994، ثم دور “نصر وهدان القط” في المسلسل الرائع “حلم الجنوبي”.. وفي دور “عبد العال زيدان” شارك السعدني في مسلسل “أوراق مصرية” بجزئيه.. وتوالت المشاركات المتميزة للراحل في العديد من الأعمال الفنية المهمة إلى أن قرر الاكتفاء بما قدّم من أعمال فنية، وكان آخرها مسلسل “القاصرات” منذ أكثر من عشر سنوات.

إن مسيرة الفنان صلاح السعدني تحتاج إلى كتابات عديدة تتناولها على نحو من التدقيق لإبراز جوانب التميز الكثيرة والمتنوعة لموهبته الفنية الفريدة.. وربما نوفق إلى ذلك أو شيء منه في القريب بمشيئة الله.. رحم الله الفنان صلاح السعدني وغفر له وأنزله منازل الأبرار.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock