رؤى

الرسم “القرءاني”.. ودلالة مصطلح “َوَٰقِع” الوظيفية

في محاولتنا الاستمرار في الحديث عن إحدى أهم الظواهر الدلالية في الرسم القرءاني، لآيات التنزيل الحكيم، يأتي حرف “الألف”، مؤشرا دلاليا، لينبه إلى اختلاف دلالة المصطلح باختلاف الرسم القرءاني لهذا الحرف؛ ففي حال التثبيت، يأتي الألف للدلالة على الجانب المادي العضوي؛ وأما في حال لم عدم تثبيت الحرف، يدل المصطلح على الجانب المعنوي الوظيفي.

وعبر رحلتنا مع حرف “الألف”، وضمن عديد من الأمثلة على أهمية هذا الحرف، بوصفه مؤشرا دلاليا؛ وإضافة إلى أمثلة مُتعددة، كنا قد تناولناها في أحاديث سابقة، سنحاول في حديثنا هذا الاقتراب من مصطلحات قرءانية أُخرى، تؤشر إلى مدى ما يُمثله هذا الحرف من أهمية دلالية، ضمن سياق آيات التنزيل الحكيم.

ضمن المصطلحات القليلة في آيات التنزيل الحكيم التي ترد على صورتين من الرسم القرءاني، يأتي مصطلح “وَاقِعُۢ” مُثبتًا فيه حرف الألف، في بعض المواضع؛ وفي الوقت نفسه، يأتي محذوفًا منه حرف الألف “َوَٰقِع”، في مواضع أخرى. وهو بهذا، يختلف عن كثير من المصطلحات، التي ترد رسمًا قرءانيًا مُحددًا، تثبيتًا للحرف أو حذفًا له؛ مثل: “بَابٖ” و”أَبۡوَٰبٖ”، “ٱلۡحَسَنَٰتِ” و”ٱلسَّيِّـَٔاتِ”، “ٱلظَّٰهِرُ” و”ٱلۡبَاطِنُ”.. وغيرها.

ولفظ “وقع”، لغويًا، يُعبر عن سقوط شيء، يُقال وقع الشيء وقوعًا فهو “واقع”؛ أما دلاليًا فيؤشر اللفظ إلى التحقق، أي “تحقق صيرورة حالة شيء ما”. وقد ورد الفعل “وقع”، ومشتقاته، في آيات التنزيل الحكيم في 24 موضعًا؛ من بينها ستة مواضع ورد فيها اسم الفاعل “واقع” بالتذكير، وفي موضعين بالتأنيث “واقعة”.

وبينما ورد المصطلح في موضعي التأنيث مُعرفًا بـ”الـ” التعريف، مع تثبيت حرف الألف “ٱلۡوَاقِعَةُ”، كمؤشر دلالي على الجانب المادي العضوي للمصطلح؛ فقد ورد في مواضع التذكير غير مُعرف.. والأهم، أنه ورد مع تثبيت حرف الألف في مواضع ثلاثة “وَاقِعُۢ”؛ ومع “لام” التوكيد ومحذوف حرف الألف “لَوَٰقِع”، دليلا على الجانب الوظيفي المعنوي للمصطلح في المواضع الثلاثة الأخرى.

والمُلاحظ، أن مصطلح “َوَٰقِع”، الذي يأتي محذوفًا منه حرف الألف، على الجانب الوظيفي، المعنوي، للمصطلح؛ يأتي، أيضًا، مسبوقًا بـ”لام” التوكيد، للتأكيد على تحقق أمور ثلاثة: “ٱلدِّينَ”، و”عَذَابَ رَبِّكَ”، وما “تُوعَدُونَ”.

ففي قوله سبحانه: “إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَٰقِع ٭ مَّا لَهُۥ مِن دَافِعٖ” [الطور: 7-8]، يبدو التأكيد على أن “عَذَابَ رَبِّكَ” سوف يتحقق لا محالة؛ بل، “مَّا لَهُۥ مِن دَافِعٖ”. وهنا، يبدو، أيضًا، الفارق الدلالي بين مادية مصطلح “دَافِعٖ” العضوية عبر تثبيت حرف الألف، وبين وظيفية “عَذَابَ رَبِّكَ” عبر حذف الحرف في مصطلح “َوَٰقِع”.

وهو ما يتأكد في الموضعين الآخرين، اللذين ورد فيهما مصطلح “َوَٰقِع”؛ نعني قوله سبحانه: “إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٞ ٭ وَإِنَّ ٱلدِّينَ لَوَٰقِعٞ” [الذاريات: 5-6]؛ وقوله تعالى: “وَٱلۡمُرۡسَلَٰتِ عُرۡفٗا ٭ فَٱلۡعَٰصِفَٰتِ عَصۡفٗا ٭ وَٱلنَّٰشِرَٰتِ نَشۡرٗا ٭ فَٱلۡفَٰرِقَٰتِ فَرۡقٗا ٭ فَٱلۡمُلۡقِيَٰتِ ذِكۡرًا ٭ عُذۡرًا أَوۡ نُذۡرًا ٭ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَٰقِعٞ” [المرسلات: 1-7].

وهنا، لنا أن نُشير إلى نقطة أساسية، مفادها: رغم أن مفهوم “ٱلدِّينَ” له حديث خاص به؛ إلا أننا نؤكد، في هذا المجال، على عدم اتفاقنا مع ما قاله عديد من المفسرين، القدامى منهم والمحدثين، من أن “ٱلدِّينَ”، هنا، يعني “الحساب الإلهي”، اعتمادًا على الآية الكريمة في سورة الفاتحة: “مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ” [الفاتحة: 4]، أي “يوم الحساب والجزاء”؛ إذ، إن مثل هذا التأويل ليس عندنا بشيء. فالمصطلح القرءاني، ليس له سوى معنى واحد على امتداد آيات الذكر الحكيم كلها، من حيث إن القرءان الكريم يرتقي بالكلمة إلى مستوى المصطلح، الذي يتطلب التعريف به، وهو تعريف مُحدد لا يتغير قرءانيًا.

وبالتالي، إذا كان “ٱلدِّينَ” يعني ما قاله هؤلاء المفسرون، فكيف نفهم، إذًا، قوله عزَّ وجل: “هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ”؛ حيث لا يمت مفهوم “دِينِ ٱلۡحَقِّ” بصلة إلى الحساب والجزاء، بدليل قوله عزَّ من قائل: “لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ”، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: “هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ” [التوبة: 33]؛ وفي قوله سبحانه: “هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدٗا” [الفتح: 28]؛ وفي قوله تعالى: “هُوَ ٱلَّذِيٓ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِينِ ٱلۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ” [الصف: 9].

وبالعودة إلى قوله سبحانه: “إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٞ ٭ وَإِنَّ ٱلدِّينَ لَوَٰقِعٞ” [الذاريات: 5-6]؛ وقوله تعالى: “وَٱلۡمُرۡسَلَٰتِ عُرۡفٗا ٭ فَٱلۡعَٰصِفَٰتِ عَصۡفٗا ٭ وَٱلنَّٰشِرَٰتِ نَشۡرٗا ٭ فَٱلۡفَٰرِقَٰتِ فَرۡقٗا ٭ فَٱلۡمُلۡقِيَٰتِ ذِكۡرًا ٭ عُذۡرًا أَوۡ نُذۡرًا ٭ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَٰقِعٞ” [المرسلات: 1-7]؛ ومن خلال ملاحظة الآيتين الكريمتين، نجد أن ما “تُوعَدُونَ” في الآية الأولى “لَصَادِقٞ”، وفي الثانية “لَوَٰقِعٞ”، بما يؤكد على “صدق الوقوع والتحقق”.

إلا أن الملاحظة التي نود تثبيتها هنا، في هذا المجال، تلك التي تتعلق بمسألة دلالة الوصل في “إِنَّمَا” في قوله سبحانه: “إِنَّمَا تُوعَدُونَ”، في الآيتين؛ واختلافها عن دلالة الفصل في “إِنَّ مَا تُوعَدُونَ”، في قوله تعالى: “إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَأٓتٖۖ وَمَآ أَنتُم بِمُعۡجِزِينَ” [الأنعام: 134].

وهنا، نتفق تمامًا مع إشارة فاضل السامرائي، إلى أن السياق الوارد في سورة  الأنعام مفصول عن أي شيء يخص “الآخرة”؛ بل، إن السياق بعد هذه الآية يرد فيه الحديث عن “الدنيا”، “إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَأٓتٖۖ… قُلۡ يَٰقَوۡمِ ٱعۡمَلُواْ”، أي إن هناك فصل لـ”مَا تُوعَدُونَ” عن الآخرة؛ وذلك كما في سياق قوله سبحانه وتعالى: “وَرَبُّكَ ٱلۡغَنِيُّ ذُو ٱلرَّحۡمَةِۚ إِن يَشَأۡ يُذۡهِبۡكُمۡ وَيَسۡتَخۡلِفۡ مِنۢ بَعۡدِكُم مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوۡمٍ ءَاخَرِينَ ٭ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَأٓتٖۖ وَمَآ أَنتُم بِمُعۡجِزِينَ ٭ قُلۡ يَٰقَوۡمِ ٱعۡمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمۡ إِنِّي عَامِلٞۖ فَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُۥ عَٰقِبَةُ ٱلدَّارِۚ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ” [الأنعام: 133-135].

أما في سورتي [الذاريات: 5] و[المرسلات: 7]، ففي الأمر وصل لـ”مَا تُوعَدُونَ” بالآخرة وأحداثها؛ بما يعني أنه في حال الفصل بين “مَا تُوعَدُونَ” وما يحدث في الآخرة، حصل الفصل على الصورة “إِنَّ مَا تُوعَدُونَ”؛ وفي حال الوصل بين “مَا تُوعَدُونَ” والآخرة وما يحدث فيها، يأتي الوصل على الصورة “إِنَّمَا تُوعَدُونَ”.

إلا أننا نُضيف، هنا، التأكيد على أن الوصل في “إِنَّمَا” يؤشر إلى الصلة بين أمرين، أحدهما مُتحقق والآخر سوف يتحقق لا محالة؛ وهو ما يتبدى بوضوح عبر قوله سبحانه وتعالى، في قصة موسى عليه السلام وفرعون: “وَأَلۡقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلۡقَفۡ مَا صَنَعُوٓاْۖ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيۡدُ سَٰحِرٖۖ وَلَا يُفۡلِحُ ٱلسَّاحِرُ حَيۡثُ أَتَىٰ” [طه: 69]. إذ هاهنا تبدو الصلة بين الأمرين: “إِنَّمَا صَنَعُواْ… وَلَا يُفۡلِحُ…”.

وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock