جرت عادة العرب، في مرحلة ما قبل ظهور الإسلام وبعد ظهوره -على حد سواء- في حال جاءهم ضيف؛ أن يقدموا له ما يقدرون عليه مما تحتوي عليه الدار -حتى وان كان ضئيلا- وهم يقولون في ترحاب لا يخلو من صيغة اعتذار “هذا جَهد المُقِل”.
عادة ما كانت هذه العبارة الرقيقة تعني طلبا؛ من المضيف للضيف أن يعذره على قلة ما قدمه له من طعام أو شراب أو غير ذلك من واجبات الضيافة، وهي في ذات الوقت اعتراف من المضيف بأن ما قدمه هو أقصى ما يستطيع تقديمه لضيفه؛ نظرا لضيق ذات اليد، وأنه لو استطاع لقدّم له ما هو أكثر بكثير.
أتذكر هذا المثل العربي الذي يحمل خصوصية ثقافية، لا تخفى على من يمعن النظر فيه وفي معناه، وأنا أتابع معركة “طوفان الأقصى” التي دخلت شهرها السادس، والتي لا أبالغ إن قلت إنها قد أعادت تعريف هذا التعبير، وأضفت عليه معنى مغايرا تماما لمعناه الأصلي.
فإذا ما نظر المتابع مثلا الى جبهات المساندة للمقاومة في غزة في كل من لبنان والعراق؛ لوجد ان هذه الجبهات أثبتت القدرة على زعزعة الداخل الصهيوني بإمكانات محدودة للغاية.
فالمسيرات التي تطلقها هذه الجبهات تجاه فلسطين المحتلة- وإن كانت منخفضة التكلفة وصغيرة الحجم؛ إلا أنها أثبتت قدرتها على تجاوز سلاح الجو الصهيوني الذي طالما تباهى العدو بأنه الأفضل نوعيا في المنطقة وسيد سمائها.
ولعل الأخطر أن هذه المسيرات بلغت العمق الفلسطيني المحتل منذ عام ١٩٤٨، وشوهدت في سماوات حيفا وصفد وعكا وغيرها من مناطق الداخل.
وأما اليمن فقد أثبت هذا القطر العربي الصغير حجما والكبير جدا دورا ومقاما، قدرته على فرض حصار بحري شبه كامل على الكيان الصهيوني٫ بل وعلى التصدي أيضا لأساطيل الدول الداعمة له بإمكانيات بسيطة، على نحو يعيد إلى الأذهان نجاح القوات البحرية المصرية في أكتوبر من عام ١٩٦٧، وبعد أقل من خمسة أشهر على العدوان الصهيوني على مصر في ذلك العام- من إغراق المدمرة الصهيونية إيلات بواسطة 4 صواريخ بحرية سطح / سطح في واقعة هي الأولى من نوعها في تاريخ الحروب البحرية.
أما المقاومة الفلسطينية الباسلة وخاصة في قطاع غزة، فقد أثبتت مرة تلو المرة أن “جهد المقل” يمكن أن يحقق الكثير.
ففي الانتفاضة الأولى، كان جهد المقل حجرا ومقلاعا لا أكثر؛ لكنه أجبر العدو الصهيوني على الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية والجلوس على مائدة التفاوض معها لأول مرة.
ثم أضحى الحجر صاروخا طال العمق الصهيوني وفرض على ذلك العمق في معركة عام ٢٠٢١، أو ما عرف حينها بمعركة “سيف القدس” حصارا جويا شاملا، ناهيك عن إجبار ملايين من الصهاينة على العيش في الملاجئ.
وحين اندلعت معركة طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر عام ٢٠٢٣، أثبت المقاومون مرة أخرى إن “جهد المقل” يمكن أن يقهر تكنولوجيا العدو المتفوقة المتطورة الواردة إليه من داعميه.
فإبداع المقاومين قهر جدران العزل الصهيوني، ومسيراتهم أعاقت وعطلت عيون الرصد والمراقبة لديه ودراجاتهم النارية العتيقة بلغت مستعمرات ما يعرف بـ”غلاف غزة” قبل أن يفيق جيش العدو من صدمته.
وبداية من التاسع والعشرين من أكتوبر، وهو تاريخ بداية الحملة البرية الصهيونية على قطاع غزة، برز جهد المقل في صورة قذائف طورتها المقاومة بشكل محلي على مدار سنوات، واستطاعت بها أن تحصد آليات العدو وأفراده على حد سواء.
بل إن قذيفة طورتها المقاومة وسمتها باسم أحد أبرز رموزها وشهدائها والتي لا تزيد تكلفتها عن ٥٠٠ دولار على أفضل تقدير، أثبتت قدرتها على تدمير فخر الصناعة العسكرية الصهيونية: دبابة الميركافا ومدرعة “النمر” التي تكلفت صناعة كل منهما ملايين الدولارات.
أخلص من كل ما سبق إلى ما يلي: أن التهوين من شأن المقاومة العربية بشكل عام والفلسطينية بشكل خاص وما تقوم به بسبب محدودية إمكانياتها والذي تمارسه بعض منابر الاعلام العربي حاليا هو تهوين مردود على أصحابه، فإن كان المقاومون في مختلف الجبهات قد تمكنوا من تحقيق كل ما ذُكر بـ”جهد المقل” فما هي حجة من يملكون الإمكانيات الهائلة؛ ولم يبذلوا ولو بعض منها في هذه المعركة؟!