في عام 1853، وعقب قيامه بانقلاب على الجمهورية – قرب انتهاء ولايته الرئاسية- وإعلان نفسه إمبراطورا – استدعى نابليون الثالث أحد كبار موظفي الإدارة (حاكم منطقة السين) وكان يدعى جورج يوجين هاوسمان – ولم يكن معماريا كما أشيع عنه – لإعادة تخطيط باريس؛ بحيث تكون الشوارع عريضة ومستقيمة تماما، وتُفْضِي جميعها إلى ميادين، يسهل نصب المدافع فيها؛ وتحرُّك القوات الحكومية بمعدّاتها منها وإليها؛ لمواجهة أي تحركات ثورية.. وفي سبيل ذلك أقدم هاوسمان على وضع خطة نُـفِّذت على ثلاث مراحل: “هُدِمَ خلالها (19730) مبنى تاريخيا وشيِّد (34000) مبنى جديدا على أنقاضها. وأُزيلت الشوارع القديمة لتحل محلها جادات طويلة عريضة تحفها عمارات سكنية من الطراز الكلاسيكي الجديد بواجهات من الحجر الأبيض”.
اعتبر كثيرون ما حدث بمثابة جريمة، فكتب رجل الدولة الشهير جول فيري – الذي عاش حتى اواخر القرن التاسع عشر- ينتقد هاوسمان وما سماه “انتصار الابتذال والمادية المريعة التي سننقلها إلى من يأتون بعدنا”.
وفي القرن العشرين انتقد المؤرخ رينيه ايرون فيليفوس ما فعله هاوسمان قائلا: “إن البارون هاوسمان نسف سفينة باريس القديمة بطوربيد وأغرقها في عهده.. ولعل ذلك كان أكبر جريمة ارتكبها حاكم منطقة.. إن عمله ألحق أضرارا بالمدينة أكثر مما يخلفه مئة تفجير”.
من الطريف أنه عندما تقدمت قوات الحلفاء لتحرير باريس من القوات النازية عام1944، أصدر هتلر أوامره للحاكم العسكري لباريس آنذاك الجنرال الألماني ديتريش كولتيتس، بتدمير المدينة؛ لكن الأخير رفض تنفيذ الأوامر؛ مبررا ذلك بقوله: “إن باريس مدينة أجمل من أن تنتهك”!
جرمانيا عاصمة العالم حلم هتلر
يعد أدولف هتلر من الأمثلة الصارخة على تسخير المعمار في خدمة الاستبداد.. كان هتلر يطمح في صباه أن يكون معماريا، لكن ظروفه حالت دون ذلك؛ بيد أنه ظل مفتونا بالطراز المعماري الروماني؛ لذلك أراد فور وصوله للحكم عبر صناديق الاقتراع في انتخابات ديمقراطية سليمة لم تشبها شائبة؛ أن يعيد تصميم المدن الألمانية وفق هذا النموذج، وأحيا حلمه القديم “جرمانيا” عاصمة العالم معتمدا على المعماري ألبرت شبير الذي كانت أولى مهامه إنشاء ملعب Zeppelin-Field في مدينة نورمبرغ الذي يتسع لـ (340000) متفرج، وتُجرى فيه المسيرات الضخمة الرسمية والدعائية، كما ظهر في فيلم انتصار الإرادة للمخرجة ليني ريفنستال”.
أراد هتلر لمباني نورمبرغ أن تبقى لآلاف السنين كالآثار الرومانية، شاهدا على عظمة الرايخ الثالث، فتبنى مفهوم شبير المعماري الذي أسماه بالأطلال، وأمر أن تكون كل مباني الرايخ مطابقة للمواصفات الهندسية والجمالية لهذا النموذج.
لقد حاول هتلر أن يتجاوز أحداث الواقع بعد أن أدرك أن الهزيمة واقعة لا محالة، وأن النهاية باتت وشيكة- بالقفز إلى المستقبل من خلال تحفته المعمارية التي حلم بها (جيرمانيا) عاصمة العالم التي ستقوم من رماد “برلين” لتبعث أمجاد الحضارة الرومانية التي اعتبرها أول الحضارات الآرية.. لكن كل ذلك تحول إلى كابوس لم يبق منه سوى مبنى الرايخستاغ.
قصر البرلمان ببوخارست
أما تشاوشيسكو فقد قرر عام 1984، عقب عودته من زيارة لكوريا الشمالية – بناء قصر منيف في مركز العاصمة الرومانية اختار موقعه بنفسه على ربوة تشرف على المركز التاريخي والديني للمدينة، ونهر دنبوفيتسا المخترق للمدينة، وبما أن ذلك التل “الأكروبولي” كانت تتربع عليه كنائس المدينة القديمة وأحيائها التي تضررت من جراء الزلزال الذي ضربها عام1977، كان ذلك مبررا كافيا لأن يعلن عن خطته في تقويض المنطقة التاريخية، وإحلال قصره محلها، وتشريد أهل تلك المنطقة ونقلهم إلى أحياء شديدة البؤس على أطراف المدينة.
نُـفِّذت الجريمة وهُدمت كنيسة أيني المبنية عام 1724، وكنيسة القديس إيليا في راهوفا المبنية عام 1747، وكذلك دير الإقطاعي ميخاييل فودا المبنية عام 1589، وبيت شركس التركي المبني على الطراز القوطي الجديد، ناهيك عن ثروة أركيولوجية تذكر بماضي المدينة العثماني الإسلامي، وخاناتها ومساجدها وأسواقها وقيسارياتها التي كانت قد شُرع في تقويضها ابتداء من خروج العثمانيين عام 1878، باختصار محا تشاوشيسكو خُمس مركز المدينة من الوجود.
أقيم القصر الذي سمي بقصر البرلمان، واعتبر ثاني أضخم مبنى إداري في العالم بعد البنتاجون- على مساحة تجاوزت نصف مليون متر، شغل البناء أكثر من نصفها، بارتفاع يصل إلى 84 مترا، وتكون المبنى من اثني عشر طابقا، وثمانية تحت الأرض، إلى جانب نفق امتد لنحو40 كيلو مترا.. ولنحو خمس سنوات عمل في القصر سبعة عشر ألف عامل، وروجت الأجهزة الأمنية وقتها حملات دعائية تدعو المواطنين إلى التقشف من أجل إتمام بناء القصر، الذي استورد “تشاوشيسكو” من أجله كثيرا من المعدات والخامات أشهرها صفقة الإسمنت الهائلة من استراليا.
كما أحيط القصر بمجمع حضري متكامل ضم ميادين وحدائق ومراكز تجارية وسكنية تخص الطبقة السياسية والأمنية والحاشية، ومعظمهم ممن أتى بهم “تشاوشيسكو” من أهل الريف الروماني، وكانت السلطات الشيوعية تمنح هؤلاء الريفيين امتيازات هائلة.
ويشير أحد الباحثين المعماريين إلى أن تشاوشيسكو أراد أن يجمع في قصره كل الطرز المعمارية “فجاء طراز القصر خلاسيا ملقطا ونشازا في أكثر أجزائه بالرغم من البذخ والاختيال والصرحية التي يتمتع بها. ويذكر العاملون بأنهم هدموا إحدى السلالم ثمانية مرات وفي التاسعة وافق عليه الديكتاتور، بعد أن استشار زوجته في الأمر. وعلى العموم فإن طراز بناء قصر تشاوشيسكو يحوي في ثناياه عناصر معمارية شرقية كالقناطر والمعالجات ببعض العناصر الزخرفية الناتئة”.
أحاط نظام تشاوشيسكو ما يجري داخل القصر من أعمال تحاكي في بذخها قصور الأساطير- بالتكتم الشديد؛ حتى أن العمال حبسوا داخل الأسوار ومنع عليهم الاختلاط بالعامة.
فور إعدام تشاوشيسكو في 25 ديسمبر 1989، اندفعت الجماهير باتجاه القصر، واقتحمته الجموع الغاضبة.. وسادت حالة من الذهول كل من دخله من هول ما رأوا من بذخ الإنفاق بينما كان الشعب الروماني يضطر للوقوف في طوابير بالساعات ليحصل على قليل من الخبز والدواء.. ورحل تشاوشيسكو حتف أنفه، وبقي معماره شاهدا على إجرامه وسفهه وجنونه وولعه بالخلود وعداء التاريخ وتثبيت الزمن دون جدوي.. وتلك هي طبائع الأمور.