مختارات

“قلعة الماسادا”.. وعقيدة “الصبر التفاوضي”

بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري

نقلًا عن موقع عروبة 22

حسين عبد الغني

يشي تاريخنا العربي الحديث بخبرات كارثية مريرة عن دور مركزي لاستراتيجية التفاوض مع إسرائيل وأمريكا في تحديد نتائج الحروب مع العدو. هذه الخبرات المريرة وليس بالضرورة موازين القوى والتي دفعنا فيها كأمّة أثمانًا فادحة، تنطبق أيضًا على حرب “طوفان الأقصى” التي تقترب من شهرها السابع.

ينطلق تقدير الموقف هذا من فرضية تقول إنه إذا استطاعت “حماس” أن تصمد أمام الضغوط الهائلة الواقعة عليها في الوقت الراهن ولم تتخلَّ عن الاستراتيجية التفاوضية المُحكمة التي تتّبعها منذ بداية الحرب، فإنها قد تهرب ولو جزئيًا من المصير التاريخي المؤلم للعرب في تضييع مكاسبهم العسكرية والسياسية في المفاوضات، من “كامب ديفيد” مرورًا بـ”أوسلو” نهايةً بـ”وادي عربة”.

يحاول هذا المقال أن يستكشف منطقة غير مأهولة كثيرًا في فهم عقلية التفاوض لدى السنوار ورفاقه في الداخل، ولدى هنية ورفاقه في الخارج. هذه المنطقة تضع البُعد النفسيّ والمعرفة بالعدو لدى هؤلاء في مرتبة متقدّمة في تحديدها لسلّم الأهداف وللاستراتيجية المنبثقة عنها.

عقيدة الماسادا الإسرائيلية

فاوض القادة الإسرائيليون السادات وعرفات والحسين بإيهام استراتيجي، هو أنّ اليهود مستعدون في أي وقت للعمل بعقيدة “قلعة الماسادا” الأسطورية – لم يثبت صحتها تاريخيًا – أي أنهم مستعدون للموت جميعًا كما فعل نحو ٩٠٠ يهودي في هذه القلعة حتى لا يقدّموا تنازلات للحكم الروماني لفلسطين، وأنهم في أي وقت سيُطلب منهم تقديم تنازلات حقيقية مستعدون لأن يفعلوا مثل “شمشون” اليهودي أيضًا في الأسطورة التوراتية، بهدم المعبد عليه وعلى أعدائه والاستمرار في الحرب حتى النهاية.

في كل مرّة كانت تتعثر المفاوضات من “كامب ديفيد” مرورًا بـ”أوسلو” إلى “العقبة” كان الإسرائيليون يدفعون المفاوضات بعقلية “الماسادا” إلى حافة الهاوية وتوشك المفاوضات على الانهيار. عندها تتآمر معهم أمريكا فيبتلع العرب الطعم ويذعنون ويبدأون في تقديم التنازل تلو التنازل، مع أنّ موازين القوى كانت تسمح لهم بأداء أفضل وبالتالي مكاسب أكثر وخسائر أقل بدلًا من اتفاقات كانت جميعها في التحليل الأخير نصرًا إسرائيليًا على طول الخط وهزيمة عربية على طول الخط.

تعاملت المقاومة مع الإسرائيليين بعقيدتهم نفسها في “الماسادا”، وقد اعترف ٩٠٪ من جنرالات إسرائيل بأنّ “حماس” تحارب وتتفاوض وقد تساوى عند قادتها ومقاوميها الموت مع الحياة.

هنا استراتيجية تفاوض تردّ كيد ونهج العدو إلى نحره تقودها عقلية “ماسادا” حقيقية فيها إيمان حقيقي بالأرض والوطن وبعظم قدر الشهادة في الدنيا والآخرة، وليس عقلية مدعية تعمل بالإيهام وتستغل نمط التفاوض الإذعاني العربي القديم.

في هذا المكوّن الرئيسي استخدمت المقاومة أيضًا تكتيك العدو معها نفسه، وهو تكتيك التفاوض تحت النار، فكما يفاوض العدو “حماس” وغاراته الوحشية تقتل الأطفال والنساء على مدار اليوم ويفرض على غزّة كلّها حرب تجويع، تفاوضه “حماس” ووفدها في القاهرة وهي تصعّد عمليات استنزافها النوعية للعدو فتضرب محور نتساريم مبددةً رمز سيطرته على القطاع، أو توجّه ضربةً موجعة لحشود أفراده في كرم أبوسالم، وتشتبك مع القوات التي تحاول السيطرة على شرق رفح.

لم تعد سياسة الدفع لحافة الهاوية قبل كل نقطة حاسمة في المباحثات وتحسّن الوضع التفاوضي حكرًا على الإسرائيليين أو لعبة يجيد قواعدها الإسرائيلي فقط، فقد أثبتت المقاومة أنها متمرّسة في هذه القواعد وتستطيع مثله تسجيل أهداف.

الضلع الثاني في استراتيجية التفاوض تقوم على خلق تعددية جماعية في صنع القرار، فكارثة التفاوض العربي السابق أنّ الأمريكيين والإسرائيليين كانوا يفاوضون شخصًا واحدًا لديه كل السلطات والصلاحيات لاتخاذ القرار، من السادات إلى الحسين مرورًا بعرفات، ولا يحتاجون إلى الرجوع لأحد، برلمانًا كان أو حكومة، فهُم الآمر الناهي. كان سهلًا بعدها التلاعب النفسي والتأثير الشعوري والعقلي بكل واحد منهم واستخدام المداخل التي تؤثر فيه وتجعله يتصوّر أنه سيدخل التاريخ أو سينقذ شعبه من الحروب.

لكن “حماس” جعلت الجميع يرى أنّ هناك قيادة في الخارج وقيادة في الداخل، كما أظهرت أنّ “الجهاد” و”الشعبية” وكتائب المقاومة الأصغر شركاؤها في المعركة والتضحيات، ولا بد أن تستشيرهم وتحصل على دعمهم لأي صفقة.

تعطي استراتيجية المراكز المتعددة للقرار والحاجة إلى الإجماع أو الأغلبية لاتخاذ أي قرار في المفاوضات هامش مناورة زمنيًا وموضوعيًا يخفف بل ويفرغ في الهواء أحيانًا جزءًا مهمًا من الضغوط الأمريكية والإسرائيلية والعربية القاسية على المقاومة لتقبل بصفقة “ضيزى” تضيع فيها مكاسب “طوفان الأقصى”، وصمود الـ٧ شهور الأسطوري.

هذا التعدد في مراكز صنع القرار جعل تأثير القطريين “المانحين الماليين” والمصريين “الشريك الجيوسياسي الأكبر” على قيادة الخارج في حدود معيّنة لا يصل إلى حد الأمر أو السيطرة، وجعل تأثير إيران وحزب الله “المانحين العسكريين” على قيادة غزّة محدودًا أيضًا.

الضلع الثالث في الاستراتيجية الحمساوية للتفاوض هو تجنّب كل أخطاء التفاوض العربي عامة والفلسطيني خاصة مع العدو الإسرائيلي وحليفه الأمريكي الذي يمكّنه من الفوز بكل المفاوضات والاتفاقيات.

وأتحدث هنا خصوصًا عن خبرتين سلبيّتين للغاية خاصة في “أوسلو” الأولى وهي قبول المفاوض العربي باتفاقيات تنطوي على بنود أو صياغات غامضة ومبهمة متعمدة يتم تفسيرها لاحقًا لصالح إسرائيل، فتصبح مكاسب ومزايا للإسرائيليين وخسائر ومصائب على رأس العرب والفلسطينيين.

الخبرة السلبية الثانية التي سعت استراتيجية المقاومة لتفاديها هي القبول بوعود شفهية أو رسائل غير رسمية موجهة من القادة الأمريكيين أو الإسرائيليين لمفاوضهم العربي الفرد، يكفي هنا تذكر رسائل كارتر الشهيرة للسادات بعد “كامب ديفيد” التي تعامل الأخير معها على أنها عهود ملزمة لواشنطن، وتنصل منها الأول محيلًا إياه فقط إلى الاتفاقية القانونية الرسمية التي وقعت عليها إسرائيل كمرجعيّة وحيدة!.

الضلع الرابع هو استراتيجية المرونة والتكيّف مع التحوّلات في ميزان قوى الأزمة. ودون دخول في تفاصيل كل يوم من أيام الحرب التي تعدت منذ زمن المائتي يوم وأثرها على هذه الموازين. يكفي أن نشير إلى رأي أتبناه منذ بضعة أسابيع وهو أن تحوّلات ميزان القوى الحالي تعطي المقاومة بعض عناصر القوة التي يمكن ترجمتها في القدرة على التشبث بموقف عدم التوقيع على اتفاق بأي ثمن وعدم الخضوع لقوى الضغط المباشرة وغير المباشرة الغربية والعربية التي تمارَس عليها بقسوة في جولات التفاوض.

المتغيّر الأهم الذي يعمل لصالح تصليب نسبي لاستراتيجية الصبر التفاوضي وطول النفس لدى المقاومة، هو ثورة الشباب العالمية الأكبر منذ حرب فيتنام، والتي انخرطت فيما يقرب من مائة وخمسين جامعة في أمريكا وكندا وأوروبا، فهذه الثورة تهدد فرص بايدن في الفوز بالانتخابات الرئاسية هذا العام.

وهذا الإلحاح الأمريكي للوصول لاتفاق هدنة، لدرجة مرابطة وزير خارجيتها ومدير مخابراتها في المنطقة بشكل شبه دائم، يستهدف وقف هذه الثورة قبل أن تسحب بايدن إلى مصير الهزيمة الذي لقيه هيوبرت همفري، وهو مرشح ديمقراطي آخر للرئاسة خسر أمام الجمهوري ريتشارد نيكسون عام ١٩٦٨ بسبب معاداة الشباب المعارضين لحرب فيتنام لمواقف الحزب الديمقراطي والرئيس السابق ليندون جونسون من هذه الحرب. ولهذا لم يبتعد كثيرًا عن الحقيقة السناتور بيرني ساندرز الذي حذر بايدن من أنّ غزّة قد تكون فيتنام الخاصة به والتي قد تطيح بآماله في فترة رئاسة ثانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock