رؤى

مواجهات إيران وإسرائيل ومسألة شرعية الحكم في إيران..الخلفية التاريخية

أثارت المواجهات العسكرية التي جرت بين إسرائيل وإيران خلال شهر أبريل من عام 2024، العديد من المسائل والموضوعات والأسئلة، كان منها ما يتعلق بماضي وحاضر ومستقبل العلاقات بين البلدين وما يمكن أن تأخذهما علاقاتهما في المستقبل من مسارات وما يمكن أن تشهده من مسارات، وكذلك تناول بعضها تصور مستقبل مخططات كل من البلدين لمستقبل المنطقة وفق رؤية كل منهما، كما تضمن بعضها الحالة العامة في المنطقة بسبب هذه المواجهات وفي ضوء نتائجها والتفاعلات فيما بين الأطراف الرئيسية الأخرى في المنطقة وكذلك فيما بينها وبين كل من إسرائيل وإيران، بالإضافة إلى توقع أنماط تعامل القوى الدولية الكبرى مع البلدين ومع دورهما في المنطقة في المستقبل.

إلا أنه كان أيضا ضمن الأسئلة التي أثيرت مؤخرا في صفوف المحللين والمراقبين والمتابعين للشأن الإيراني وللشأن الإسرائيلي وللتفاعلات فيما بين الدولتين- انعكاسات تلك المواجهات على الأوضاع الداخلية في الدولتين على أكثر من صعيد، سواء التأثير على حالة الاقتصاد الوطني والأوضاع المعيشية للمواطنين في كل من الدولتين، أو على حالة الأمن والاستقرار الداخليين لدي الدولتين،  وكذلك تأثيرها على شعبي الحكومتين بين صفوف الجماهير في كل من البلدين. وسوف نسعى هنا لتناول جانب واحد من جوانب التداعيات الداخلية لتلك المواجهات العسكرية المباشرة الأخيرة بين كل من إسرائيل وإيران، وأعني هنا تحديدا مسألة الشرعية السياسية للحكم في كل من إيران وإسرائيل.

وبدايةً يتعين أن نؤكد على الإدراك بأن مرجعيات الشرعية السياسية تختلف بدرجة كبيرة بين كل من إيران والدول المجاورة لها أو التي تقع في منطقتها نظرا لخصوصيات في طبيعة النظام السياسي في إيران، وارتباط ذلك بنمط التطور التاريخي للمشهد السياسي الإيراني على مدار أربعة عقود ونصف، وتحديدا منذ انتصار الثورة الإيرانية في فبراير 1979، وهو عنصر محوري شديدة الأهمية يعتبر مكونا رئيسيا، إن لم يكن المكون الرئيسي، لمسألة الشرعية السياسية للحكم في إيران، وهذه الخاصية كان ولا يزال لها دورها لدي المجتمع والشعب الإيراني، أو على الأقل قطاعات عريضة منه، الأمر الذي قد يجعلها أكثر أهمية من المعايير المتعارف عليها دوليا أو المعتادة في تعريف موضوع الشرعية.

وإذا عدنا بالزمن في ذاكرتنا إلى الوراء بعض الشيء، وتحديدا قبل اندلاع الثورة الإيرانية الأخيرة التي انتصرت في فبراير 1979، نجد أن الكثير من الفصائل التي لعبت دورا محوريا فيما بعد في تلك الثورة، كانت قد طورت منذ عقد الستينيات في القرن العشرين علاقات قوية مع بعض فصائل الثورة الفلسطينية، وبالتزامن مع ذلك كانت قد بلورت مواقفا واضحة وحاسمة وصريحة في التضامن مع الشعب الفلسطيني وقضيته، وبالتالي في تبني المواقف العدائية إزاء إسرائيل وحلفائها الإقليميين والدوليين على حد سواء.

وكانت الخلفية الحاكمة لتلك العلاقات والمواقف من جانب تلك الفصائل الإيرانية هي تطبيق عملي لمبدأ “عدو عدوي هو صديقي”، بالإضافة إلى اعتبار آخر لا يقل أهمية وهو ذي طابع عقائدي وأيديولوجي وتاريخي.

أما عن مفهوم “عدو العدو صديق” فنجد أن تلك الفصائل الإيرانية كانت تناضل لسنوات طويلة، وخاصة منذ بدايات عقد الستينيات من القرن العشرين وحتى انتصار ثورة فبراير 1979، بهدف إسقاط الحكم الامبراطوري بشكل عام، وإسقاط حكم أسرة بهلوي على سبيل الخصوص، وذلك في ضوء معطيات كثيرة منها إسقاط التجربة الوطنية للدكتور محمد مصدق في النصف الأول من عقد الخمسينيات من القرن العشرين بواسطة تعاون ثلاثي بين نظام الشاه محمد رضا بهلوي والولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا، وبالتالي كان يجب على تلك الفصائل في البداية أخذ الحيطة والحرص ثم الانتقال إلى الوقوف في الخندق المضاد لحلفاء النظام الشاهنشاهي ومن يدعمونه.

وبحلول عقد الستينيات من القرن العشرين كان في مقدمة من يدعمون نظام حكم أسرة بهلوي إسرائيل، حيث تعاظمت العلاقات الإيرانية الإسرائيلية، وتنوعت واتسعت أوجه التعاون فيما بين البلدين في تلك السنوات وما بعدها لعدة أسباب.

أما السبب الأول فكان وحدة العدو بين إيران وإسرائيل في ذلك الوقت، وأعني هنا بالطبع مصر الناصرية ومن كان يلتف حولها من البلدان العربية التي كانت تُعرف وقتها بالدول الثورية أو التقدمية، حيث كان هذا المعسكر يرفع شعار “القومية العربية” ذات المحتوى الاقتصادي والاجتماعي التقدمي.

أما السبب الثاني فكان يتعلق بأنه بينما كانت إيران وإسرائيل تقفان بقوة في مربع التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، فإن مصر وحلفاءها من الدول العربية الأخرى كانوا يقفون في مربع الصداقة والتقارب مع الاتحاد السوفيتي السابق وبلدان ما كان يعرف بـ “الكتلة الشرقية”، وعلينا أن نتذكر أن ذلك كان في زمن توهج “الحرب الباردة” بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي.

أما السبب الثالث لهذا التحالف بين إيران وإسرائيل آنذاك فكان احتياجات متبادلة لدي كل طرف وجد أن التعاون والتحالف مع الطرف الآخر يلبيها، فإسرائيل كانت تحتاج بشدة إلى النفط الإيراني ومشتقاته لعدم توافره لديها نهائيا، وإيران بدورها كانت تحتاج الدعم الإسرائيلي العسكري والأمني على أكثر من صعيد، بداية بحاجتها لتطوير جهاز أمنها (السافاك)، وتدريب قواتها على مقاومة حرب عصابات معادية لنظام الشاه بدأت تقوم بها تنظيمات سرية مسلحة معادية له في السنوات الأولى من عقد الستينيات من القرن العشرين، كما كانت إيران تحتاج للتعاون مع إيران في قطاع البحث العلمي والتطوير التكنولوجي، سواء في المجالات العسكرية أو المدنية.

أما الاعتبار الآخر الذي كان دافعا لعداء تلك الفصائل الإيرانية الثورية لإسرائيل فكان يرجع إلى عناصر تجمع بين ما هو عقائدي وما هو أيديولوجي وما هو تاريخي.

فهذه التنظيمات انقسمت من الناحية الأيديولوجية إلى عدة أقسام، وتحديدا كان منها فصائل ماركسية وكان في مقدمتها “سازماني فدائيي خلق إيران”، كما كان من بينها فصائل تنتمي لليسار الإسلامي المستقلة عن سلطة وسيطرة رجال الدين الإيرانيين المناهضين لنظام الشاه، وكان في مقدمتها “سازماني مجاهدي خلق إيران”، وأخيرا وليس آخرا.. كانت هناك جماعات وتنظيمات منضوية تحت لواء نظرية “ولاية الفقيه” التي طورها آية الله الخميني بعد صدامه، ورجال دين إيرانيين آخرين مع نظام الشاه بعدما أطلق الأخير ما أسماه بـ “الثورة البيضاء” والتي كان أحد أهدافها استئصال نفوذ وقوة ومكانة المؤسسة الدينية الشيعية في إيران، ونفي الخميني على إثر معارضته الشديدة لتلك الثورة والتحريض عليها أولا إلى العراق وبعد ذلك منها إلى فرنسا.

وبالتالي كان من الطبيعي أن تتخذ الفصائل الإيرانية الماركسية مواقف معادية لإسرائيل، في سياق سعيها لإسقاط نظام الشاه، أولا لعداء الماركسيين لإسرائيل ووصفهم الأيديولوجية الصهيونية التي قامت على أساسها إسرائيل بأنها أيديولوجية عنصرية ورجعية في آن، وثانيا لتحالف إسرائيل مع المعسكر الغربي بشكل عام ومع الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص، في مواجهة المعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفيتي السابق خلال الحرب الباردة، وثالثا للدور الذي لعبته إسرائيل في خدمة مصالح الرأسمالية العالمية في الشرق الأوسط، وهو ما رأى فيه الماركسيون الإيرانيون امتدادا وتكاملا مع دور إيران الشاه “شرطي” الخليج لخدمة المصالح الرأسمالية العالمية.

أما الفصائل الموالية لرجال الدين الإيرانيين الرافضين لحكم الشاه؛ فكانت تنظر بالمقابل لإسرائيل من منظور يجمع بين الاعتبارات الدينية البحتة والاعتبارات التاريخية، فبالنسبة لهم كانت إسرائيل تجسيدا لكل ما تضمنه القرآن الكريم والتراث الإسلامي – في المراحل الأولى من التاريخ الإسلامي- من نعوت وأوصاف سلبية لليهود وسلوكياتهم ونهجهم في أزمان سابقة، كما اعتبروا أنه لا أساس ولا حق ولا شرعية لإقامة دولة لليهود على أرض فلسطين التي هي بالنسبة لهم جزء لا يتجزأ من “دار الإسلام” بمفهومها التاريخي، وأن إسرائيل قامت على أنقاض اغتصاب أرض فلسطين من شعبها المكون في غالبيته من المسلمين، وتعمل على إحلال المستوطنين اليهود القادمين من الخارج مكان سكانها الأصليين.

أما فصائل اليسار الإسلامي المناهضة لحكم الشاه الإيراني، فقد جمعت في رؤيتها لإسرائيل وتحديد موقفها المعادي منها بين الاعتبارات التي ذكرناها فيما سبق للفصائل الماركسية، والاعتبارات التي سقناها لتبرير عداء التنظيمات الموالية لرجال الدين الشيعة الإيرانيين المعادين للحكم الشاهنشاهي. وخلصت إلى نفس النتيجة أي اعتبار إسرائيل عدو، والنضال ضدها وتأييد الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.

أما عن علاقات تلك الفصائل الثورية الإيرانية، على تنوعها، مع بعض فصائل المقاومة الفلسطينية، فقد تمثلت في حصول كوادر وعناصر من الأجنحة العسكرية لتلك التنظيمات، والتي كانت لسنوات، ومنذ ستينيات القرن العشرين، تخوض حرب عصابات ضد النظام الإيراني مهدت الأجواء لانطلاق الثورة الشعبية ضد الشاه وحكمه، خاصة في أعقاب اغتيار “السافاك” للمفكر الثوري الإسلامي التقدمي الدكتور علي شريعتي في يونيو 1977، على تدريب عسكري في معسكرات العديد من فصائل المقاومة الفلسطينية، بما في ذلك حركة التحرر الوطني الفلسطيني (فتح) وكل من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، سواء كان ذلك في الأردن قبل سبتمبر 1970 أو في لبنان حتى انتصار الثورة الإيرانية.

وقد ساهم ذلك التدريب في تحسين القدرات القتالية لتلك الكوادر والعناصر؛ ومن ثم حسّن من الأداء النوعي لتلك التنظيمات في ضرباتها لنظام الشاه ومؤسساته.. ولذا كان من الطبيعي أن تشعر تلك التنظيمات والشخصيات التي تسير على نهجها بدين إضافي عليها أن ترده للشعب الفلسطيني بعد انتصار الثورة الإيرانية في فبراير 1979، وهو ما يضاف إلى الاعتبارات الواردة فيما سبق سواء الاعتبارات السياسية أو تلك التي جمعت بين العقائدي والأيديولوجي والتاريخي.

أما كيف تمت ترجمة ذلك بعد انتصار الثورة الإيرانية، فتلك قصة أخرى سنتناولها في مقال قادم.

 

 

د.وليد محمود عبد الناصر

كاتب ومفكر مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock