ثقافة

قناع بلون السماء.. مغامرة محسوبة لباسم خندقجي

يرى الناقد الروسي ميخائيل باختين أن اللغة ليست نسقا من الوحدات والمقولات النحوية المجردة، بل تعتبر كائنا اجتماعيا حيا، ومشبعا أيدلوجيا.. وعلى هذا الأساس يبني الناقد الروسي مفهومه لحوارية اللغات/ الخطابات والنصوص على مختلف الأبعاد الاجتماعية والسياسية والتاريخية والفلسفية والنقدية وغيرها.

في روايته “قناع بلون السماء” الفائزة بجائزة البوكر للرواية العربية هذا العام، يغزل الروائي الفلسطيني الأسير باسم خندقجي ببراعة خيوط عمله؛ من خلال آليات روائية تعتمد رؤية باختين إذ تنهض لغة الرواية بحمولة معرفية وعلمية ثقيلة، في إطار إعرابها عن مأساة وطنٍ وشعبٍ قاربت في امتداد الزمن الثمانية عقود.. يتوخى باسم الحذر خشية الوقوع في غواية اللغة وأسر البلاغة والاستطراد أو الاستسلام للنمطي والمعتاد في تناول القضية بأبعادها الإنسانية؛ فينجح كثيرا ويخفق قليلا.

لا يبتعد خندقجي في عمله عن تلك الثنائية الخشنة، التي يفرضها الصراع الذي يتأجج يوما بعد يوم، بين قوات الاحتلال وشعب يؤمن بالمقاومة خيارا وحيدا.. بعد تهافت وسقوط كل الخيارات، تحت ثقل وطأة الآلة العسكرية المُعربدة للعدو.. وإجرامه الذي فاق كل حد.

ثنائية نور الشهدي وصديقه الأسير مراد التي تتجلى فيها تباينات الرؤى بشأن القضية التي يرى مراد أن “التصدي للوحش الكولونيالي” المتمثل في الاحتلال الصهيوني؛ لا يكون إلا بالتأسيس لمرجعية معرفية خاصة بالفلسطينيين، بينما يرى نور أن البحث عن أسرار المجدلية لا يقل أهمية  رغم سيطرة الضبابية على فكرة نور، التي تراوحه بين البحث التاريخي والكتابة الروائية.. كما يتجلى في تلك الثنائية الجدل المحتدم بين السجن الأكبر الذي يكتوي به نور منذ الصغر، بفقدان الأم وصمت الأب المناضل المعتزل، والإيذاء النفسي والتنمر الذي كانت ملامح نور الأشكنازية سببا فيه.. والسجن الأصغر الذي يقبع فيه مراد حاسما خياراته بوضوح ربما يحسده عليه نور.. ليكون مراد في نظره أسيرا حرا، بينما أسره لا فكاك منه.

ثم تأتي ثنائية نور وأور شابيرا وهي الثنائية المركزية في الرواية؛ لكنها لا تتحصل على ذلك التصعيد الذي يشارف الصدام؛ ولا تقترب كثيرا من المناطق الخطرة إنها -رغم مركزيتها- أقرب إلى المراوحة الاعتيادية بين خصمين يعرف كل منهما الآخر جيدا؛ ويدير معه الصراع وفق حسابات دقيقة.

الثنائية الأهم في رأيي والتي لم يتكئ عليها خندقجي كثيرا- هي ثنائية المخيم/ المدينة أو رام الله/ القدس.. فبقدر ما يفرضه المخيم من شعور بالضآلة والانسحاق؛ تفتح القدس لنور أفقا واسعا نحو التحرر من قيوده المتعددة.. هل كانت معرفة أكثر عمقا مجللة بالعشق المقدسي بكل تفاصيله هو ما كان يجب أن نجتني ثماره الغضة من مخيلة خندقجي أولا وقبل كل شيء؟ ربما.

ثم تأتي ثنائية أيالا وسماء إسماعيل لتكشف عن الوجه الأوضح والأكثر صراحة للتحدي بين المحتل الذي يعاني من الشعور بالدونية كونه “سفرديم” وصاحب الأرض المستعلي بقوة الحق الذي لا ينساه، وليس لديه أي استعداد للتخلي عنه.

في أعماق نور الشهدي يبدو تخلٍ من نوع آخر حفره فقد الأم (نورا كرادنة) التي ماتت بعد ولادة نور مباشرة وهي في العشرين من عمرها صبية بالغة الجمال، وهي التي أورثت ملامحها الأوروبية نورًا لينال لقب “السكناجي” عن جدارة.. في مقابل نورا كرادنة نلمح الحاجة أم عدلي والدة مراد، تلك العجوز التي تفيض بحنانها على نور، وتتحمل في سبيل ولدها الأسير ما لا يقوى على تحمله أشد الرجال، في رحلة نضالية لا تعرف الراحة أو الهدنة.

الاقتراب الحذر من العدو، الذي يصل إلى درجة انتحاله؛ لتفكيك رؤيته المؤسسة لمشروعه والتي تعتمد التزييف بإحلال تفاصيل ذات طابع صهيوني بديلا للمعالم الأصلية الفلسطينية، التي تظل باقية رغم المحو بحيث تستطيع العين الخبيرة رصدها وتمييزها بسهولة.. مثلما فعلت نيكول الباحثة الآثارية البلجيكية مع الضابط الصهيوني ناتال، الذي كان يروّج أكاذيبه بشأن الغابة التي زرعت لإخفاء معالم قرية “أبو شوشة” المنكوبة التي هُجّر أهلها قسرا.

ربما كان من الممكن لخندقجي اختيار مدخل آخر غير ولع نور بقصة المجدلية، ومحاولته إثبات دورها وحضورها القوي في المشهد المسيحي الأول.. فقد بدت القصة في أحيان كثيرة نفسا مُقحما على الرواية التي تصطخب بأسى التناوش الوحشي الذي وقع قلب الفتى نور؛ ضحية له في غمرة الضياع واللجوء والصراع بين هويتين.

تبدو شخصية الشيخ مرسي المقدسي كواحة هادئة وسط جحيم الصراع المتأجج على الأرض وفي نفس وعقل نور الشهدي.. إنه أحد سدنة المدينة المقدسة.. أحد الحراس الذين ترفرف أرواحهم فوق الأقصى، وتعرف جيدا دورها المنوط بها، وتمثل شخصية الشيخ مرسي إلى جانب مراد وسماء إسماعيل المثلث الآمن، الذي يتحرك في إطاره نور الشهدي رغم تنازعاته الضارية.

لقد اختار خندقجي كلمات من جدارية درويش ليصدر بها روايته؛ فربما كان من الأنسب أن نختم هذه القراءة السريعة للرواية أيضا بكلمات درويش “عَلَى هَذِهِ الأرْضِ مَا يَسْتَحِقُّ الحَيَاةْ.. عَلَى هَذِهِ الأرضِ سَيَّدَةُ الأُرْضِ، أُمُّ البِدَايَاتِ أُمَّ النِّهَايَاتِ. كَانَتْ تُسَمَّى فِلِسْطِين. صَارَتْ تُسَمَّى فلسْطِين. سَيِّدَتي: أَستحِقُّ، لأنَّكِ سيِّدَتِي، أَسْتَحِقُّ الحَيَاةْ”.

“قناع بلون السماء” لباسم خندقجي الروائي الفلسطيني الأسير.. رواية تعيد لنا كثيرا من تفاصيل المشهد، وترسم لنا زاوية أخرى للمأساة.. وإن أغرقتنا في تفاصيل أخرى دون كبير احتياج لها.. لكنها تستحق القراءة.. والجائزة أيضا.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock