رؤى

مصطلحات قرآنية: النَّبِيُّ الأُمِّيُّ.. و”الأُمَّةُ الوَسَطُ”

إذا كان التعريف القرآني الدقيق لمصطلح “الأُمِّيِّينَ”، هو عدم العلم بالكتاب، وليس عدم العلم بالكتابة؛ فإن معنى الأمة الأمية هو “الأمة التي لا تعلم الكتاب”، سواء بعدم العلم بوجوده، أو بالغفلة عنه مع وجوده، أو بالعلم به وعدم اتباعه.. ويكون “الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ”، عليه الصلاة والسلام، حاله كحالهم من حيث عدم العلم بالكتاب؛ لأنه سُمي “أميًّا” لانتسابه إليهم، وكونه “منهم”، ولا يعلم الكتاب مثلهم.

فـ”الْأُمِّيِّينَ”، إذًن ليسوا هم من سُمّوا لانتسابهم إلى “الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ” -عليه الصلاة والسلام- بل على العكس؛ فإذا كان هو مبعوثٌ “منهم”، فإنه يتصف بما اتصفوا به على إطلاقهم ومن دون استثناء، فيكون “أميًّا” لعدم علمه بالكتاب مثلهم، ويُقال له “النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ” كما يُقال لهم “ُالأمِّيُّونَ”. ومن ثم يكون النبي وصحابته من الأميين، سواء منهم من كان يكتب أو لا يكتب قبل مبعث النبي؛ ويُستثنى منهم فقط من كان كتابيا وأسلم.

هنا يصبح التساؤل الذي يفرض نفسه: ما علاقة “النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ” -عليه الصلاة والسلام- بالوصف القرآني لأمته بأنها “أُمَّةً وَسَطًا”؟

أمة الْأُمِّيِّينَ

إن تأمل النص القرآني، في آيات سورة الجمعة، يؤكد على أن الله سبحانه وتعالى قد بعث النبي الخاتم -عليه الصلاة والسلام- في “الأُمِّيِّينَ”. يقول سبحانه: “هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ” [الجمعة: 2].

وكما هو واضح، فإن مناط هذه الآية هم “الْأُمِّيِّينَ” العرب، حول أم القرى. أما الآية التي تليها، فمناطها من يلحق بالأصل، فهو امتداد له. يقول تعالى: “وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” [الجمعة: 3]. ثم، تأتي الآية الرابعة لتؤكد على السياق الدلالي الذي يجمع بين الآيتين، حيث يقول عز وجل: “ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ” [الجمعة: 4].

وهنا لابد من الإشارة إلى أننا وصلنا عبر مقالات سابقة على هذ الموقع، إلى أن “الْأُمِّيِّينَ” هم غير الكتابيين؛ علما بأن النبي لا يخط بيمينه وليس تابعًا لكتاب سماوي من قبل، فجمع بين الحالين: “غير كتابي” بوصفه أميًا، و”غير كاتب” بوصفه لا يخط بيمينه. ولو كانت “الأمية” تعني الذي لا يخط بيمينه، كما هو دارج في الكلام العربي السائد، لاكتفى الله سبحانه بمفردة “أمي” فقط. يقول تعالى: “وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ” [العنكبوت: 48].

ولأن “الْأُمِّيِّينَ”، بوصفه مصطلحا قرآنيا، يشمل “كل إنسان، في أي مكان في العالم، لا يعلم الكتاب”.. ولأن “الْأُمِّيِّينَ” هم على الإطلاق، ينتشرون في كل العالم؛ لذا تحدد أصل “الْأُمِّيِّينَ” وحصرهم، في سورة الأنعام، بمكة ومن حولها (أم القرى). يقول سبحانه: “وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ” [الأنعام: 92]. ثم، حمَّل الله هؤلاء، بالذات، المسئولية عن الذكر، في سورة الزخرف. يقول تعالى: “وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ” [الزخرف: 44].

وهكذا، جعلهم الله سبحانه وتعالى ـ و”الجعل” هو تغيير في الصيرورة باتجاه التطور، أي: تحول زائد إضافة ـ ليس فقط “أُمَّةً وَسَطًا” بل “خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ”. يقول سبحانه: “كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ” [آل عمران: 110]. ومن ثم، يبدو بوضوح الارتباط بين “خيرية الأمة” وبين “الخروج” للناس.

معنى الوسط

لقد اتخذ الكثيرون من المصطلح القرآني “أُمَّةً وَسَطًا”، مطية للدعوة إلى “الوسطية” الفكرية والسياسية؛ هذه الدعوة التي جاءت تحت الضغط المادي والمعنوي للجماعات الأصولية، خاصة تلك التي اتخذت من حمل السلاح طريقًا إلى تنفيذ رؤيتها في الواقع العربي والإسلامي.

ويأتي تعبير “الإسلام دين الوسطية”، أو “الإسلام الوسطي المعتدل”، كتعبيرات يُراد بها إظهار أن الإسلام لا يمت إلى ممارسات تلك الجماعات بأية صلة. والواقع.. أن القرآن ليس بوسطي بأي وجه من الوجوه. إذ القرآن له منهجيته، وضوابطه المعرفية، وخطابه؛ فالوسطية تلك تُناقض القرآن منهجيًا ومعرفيًا.

في هذا الإطار، لابد من الإشارة أولا إلى ما يعنيه الجذر اللغوي لمفردة “و س ط”. ففي مقاييس اللغة، يقول ابن فارس: “الواو، والسين، والطاء بناءٌ صحيح، يدلُّ على العدل والنَّصَف، وأعدل الشيء، أوسطه ووسطه”؛ وفي لسان العرب، يقول ابن منظور: “الوسَط يأتي صفة، وإن كان أصله أن يكون اسمًا، من جهة أن أوسطَ الشيء أفضلُه وخيارُه، كوسَط المرعى خيرٌ من طرفيه، وكوسط الدَّابة للركوب خيرٌ من طرفيها”. وبناءً على ذلك، يمكن الاطمئنان إلى القول: إن الوسط يشترطُ له أن يكون مكنوفًا بأطرافه، ليس مُنفصلًا عنها، بل في حالة اتصال معها.

أما عن الدورة الدلالية للفظ “وسط”، ومشتقاته، في التنزيل الحكيم، فقد وردت خمس مرات، إحداها قول الله سبحانه وتعالى: “سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ٭ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا” [البقرة: 142 – 143].

في هذه الآية، التي اعتمد عليها مروجو “الإسلام الوسطي”، لنا أن نلاحظ أن الكثيرين منهم قد أغفلوا حركة “الواو” في أول الآية الثانية؛ وهي حركة تؤشر إلى أن مضمون الآية لابد أن يكون محمولًا على دلالات الآية الأولى، لتكون كل واحدة منهما مؤكدة لمضمون الأخرى.

هذا بالإضافة إلى لفظة “كذلك”، التي هي أداة للربط بين خبرين؛ ولأنها وردت في بداية الآية الثانية، فالربط هنا بين ما تُخبر عنه الآية الأولى، وما تُخبر عنه الآية الثانية. فإذا عرفنا أن كذلك هي لفظة مركبة من “ذلك” وهو اسم إشارة إلى بعيد، و”كاف” التشبيه؛ لنا أن نتساءل عن “المشبه به البعيد”(؟!).

الأمة  الوسط

هنا لدينا احتمالان.. الأول هو معنى يهدي في قوله سبحانه “يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ” وهو معنى يدل على الاختصاص الإلهي بالهداية لهؤلاء الذين جعلهم سبحانه وتعالى “أُمَّةً وَسَطًا”.. والثاني هو ما يوضحه قوله تعالى “قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ”، من أهمية المكان الذي اختصه الله عز وجل ليكون “القبلة الجديدة”.

وفي نظرنا، فإن نقطة تلاقي هذين الاحتمالين تؤشر إلى الربط بين التحول إلى “القبلة – المركز”، باتجاه البيت الحرام، وبين الأمة الوسط؛ ولم تربط، كما هو واضح، بين الأمة الوسط والوسطية الفكرية والسياسية.

ولأن المفاهيم المركبة لا تقوم من دلالتين منفصلتين لتشكيل دلالة جديدة، إلا بإيجاد مقاربات فكرية، وارتباطات لغوية، بينهما، فإنه بناءً على الملامح الدلالية لمفهوم “أُمَّةً وَسَطًا”، وبناءً على المقاربة بين مفهوم الأمة ومفهوم الوسط، لنا أن نتبين السبب وراء جعِل الأمة الوسط في مقام “الشهادة” على الناس “من حولها”.

فالشهادة “حضور إنساني ومكاني” على محور الزمان، ولا علاقة لهذه الشهادة، على الناس، بالوسطية إياها. يقول سبحانه: “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا…” [البقرة: 143]. وبالتالي، فإن علاقة الشهادة هي بـ”الخروج”، الجغرافي والبشري، إلى الناس.

وهكذا، تتبدى الكيفية التي ركز بها القرآن على أهم سمات الأمة العربية الإسلامية، بكونها “أمة دعوة” مهمتها الخروج إلى الناس، حيث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله؛ وذلك خلافا للتجربة اليهودية كمثال، التي كانت تعتمد على دخول الأرض المقدسة والتوطن فيها، كما يتضح من قوله تعالى: “يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ” [المائدة: 21].

ومن ثم، جعل الله سبحانه وتعالى لكل منهما، ومعهما أهل الإنجيل، “شرعة ومنهاجًا”. يقول سبحانه: “… لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ…” [المائدة: 48].

فأين إذن سمات الأمة هذه؟ مما يحاوله التيار الذي يقود حملات “الوسطية”، والذي لا يفعل شيئا أكثر من التوجه بالإسلام إلى “توفيقية” غير صحيحة.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock