رؤى

التقديم والتأخير.. ودلالة “بَصِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ”

حسين معلوم

في الحديث حول دلالة “وَٱللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ”، وصلنا إلى أن هذا التعبير القرءاني تتقدم فيه الخبرة الإلهية “وَٱللَّهُ خَبِيرُۢ”، على عموم العمل الإنساني “بِمَا تَعۡمَلُونَ”؛ من منظور أن هذا التعبير يأتي في سياق يسبقه فيه أوامر أو أفعال إلهية، حتى وإن كانت تتعلق بالإنسان. أوامر إلهية، من قبيل: “فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۚ”؛ وأفعال إلهية مثل: “وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِذَا جَآءَ أَجَلُهَاۚ”.

وذلك كما في قوله سبحانه: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نَٰجَيۡتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيۡ نَجۡوَىٰكُمۡ صَدَقَةٗۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ لَّكُمۡ وَأَطۡهَرُۚ فَإِن لَّمۡ تَجِدُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ ٭ ءَأَشۡفَقۡتُمۡ أَن تُقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيۡ نَجۡوَىٰكُمۡ صَدَقَٰتٖۚ فَإِذۡ لَمۡ تَفۡعَلُواْ وَتَابَ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۚ وَٱللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ” [المجادلة: 12-13]؛ وكما في قوله تعالى: “وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِذَا جَآءَ أَجَلُهَاۚ وَٱللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ” [المنافقون: 11].

أما التعبير القرءاني “وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ”، الذي يأتي ليتقدم فيه العمل الإنساني “بِمَا تَعۡمَلُونَ” على الخبرة الإلهية “خَبِيرٞ”، تقدمًا سياقيًا؛ فإنه في هذه الحال التي تختلف عن وضعية التعبير القرءاني السابق “وَٱللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ”، يتضمن الخطاب القرءاني حديثا عن الإنسان وعمله؛ ولذلك يتقدم العمل على الخبرة.

يقول سبحانه: “إِن تُبۡدُواْ ٱلصَّدَقَٰتِ فَنِعِمَّا هِيَۖ وَإِن تُخۡفُوهَا وَتُؤۡتُوهَا ٱلۡفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيۡرٞ لَّكُمۡۚ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّـَٔاتِكُمۡۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ” [البقرة: 271]؛ ويقول تعالى: “زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَن لَّن يُبۡعَثُواْۚ قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبۡعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلۡتُمۡۚ وَذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِير ٭ فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَٱلنُّورِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلۡنَاۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ” [التغابن: 7-8].

وعبر هذه الآيات الكريمة، نُلاحظ كيف أن التعبير القرءاني “وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ”، يأتي كـ”خاتمة” سياق قرءاني يتضمن حديثا عن العمل الإنساني: “إِن تُبۡدُواْ ٱلصَّدَقَٰتِ… وَإِن تُخۡفُوهَا…” في الآية الأولى، و”عَمِلۡتُمۡۚ” في الآية الثانية.

ويتأكد هذا الخط العام، بخصوص التعبير القرءاني “وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ”، عبر عديد من آيات التنزيل الحكيم، كما في قوله عزَّ وجل: “وَٱلَّذِينَ يُظَٰهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمۡ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحۡرِيرُ رَقَبَةٖ مِّن قَبۡلِ أَن يَتَمَآسَّاۚ ذَٰلِكُمۡ تُوعَظُونَ بِهِۦۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ” [المجادلة: 3]؛ وكما في قوله عزَّ من قائل: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قِيلَ لَكُمۡ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلۡمَجَٰلِسِ فَٱفۡسَحُواْ يَفۡسَحِ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَٱنشُزُواْ يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ” [المجادلة: 11].

بل، إن هذا الخط العام يتبدى بوضوح في حال ورود التعبير القرءاني تسبقه “إِنَّ” التوكيدية، “إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا”.. وذلك، كما في قوله سبحانه: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلَا تَقُولُواْ لِمَنۡ أَلۡقَىٰٓ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَٰمَ لَسۡتَ مُؤۡمِنٗا تَبۡتَغُونَ عَرَضَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا فَعِندَ ٱللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٞۚ كَذَٰلِكَ كُنتُم مِّن قَبۡلُ فَمَنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡكُمۡ فَتَبَيَّنُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا” [النساء: 94]؛ وكما في قوله تعالى: “وَإِنِ ٱمۡرَأَةٌ خَافَتۡ مِنۢ بَعۡلِهَا نُشُوزًا أَوۡ إِعۡرَاضٗا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يُصۡلِحَا بَيۡنَهُمَا صُلۡحٗاۚ وَٱلصُّلۡحُ خَيۡرٞۗ وَأُحۡضِرَتِ ٱلۡأَنفُسُ ٱلشُّحَّۚ وَإِن تُحۡسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا” [النساء: 128]. إذ، هاهنا نُلاحظ كيف تضمن السياق القرءاني، في الآيتين الكريمتين، أعمالًا إنسانية تسبق التعبير القرءاني، من قبيل: “إِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ” في الآية الأولى، و”نُشُوزًا أَوۡ إِعۡرَاضٗا” في الآية الثانية.

وهو أيضا ما يتبدى من خلال قوله سبحانه: “وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوۡنَ مِنكُمۡ وَيَذَرُونَ أَزۡوَٰجٗا يَتَرَبَّصۡنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرۡبَعَةَ أَشۡهُرٖ وَعَشۡرٗاۖ فَإِذَا بَلَغۡنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا فَعَلۡنَ فِيٓ أَنفُسِهِنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ” [البقرة: 234]؛ وعبر قوله تعالى: “وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَٰثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا يَسۡتَوِي مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَٰتَلَۚ أُوْلَٰٓئِكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةٗ مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَقَٰتَلُواْۚ وَكُلّٗا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ” [الحديد: 10].

وأخيرًا..

لابد من التأكيد على أن التعبير القرءاني “ٱللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ”، قد ورد في آيات النزيل الحكيم في “7” مرات؛ في حين أن التعبير القرءاني “ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ” قد ورد في “13” موضعًا. وإضافة إلى الآيات التي ذُكرت بالنسبة إلى التعبير القرءاني الأخير، فقد ورد في الآيات الكريمة [آل عمران: 180، لقمان: 29، الفتح: 11، النساء: 135، الأحزاب: 1-2].

ومثلما هو الحال بالنسبة إلى التعبيرين القرءانيين: “ٱللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ”، و”ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ”، من حيث دلالات التقديم والتأخير في كل منهما؛ يأتي الحال أيضا بالنسبة إلى التعبيرين القرءانيين: “ٱللَّهُ بَصِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ”، و”ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ”.

فإذا كان السياق القرءاني الوارد فيه التعبير “ٱللَّهُ بَصِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ”، يتضمن خطابًا قرءانيًا حول الله سبحانه وتعالى وصفاته؛ يأتي تقديم الصفة “بَصِيرُۢ” على عموم العمل الإنساني “بِمَا تَعۡمَلُونَ”. وذلك كما في قوله سبحانه: “إِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُ غَيۡبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ وَٱللَّهُ بَصِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ” [الحجرات: 18]؛ وكما في قوله تعالى: “أَفَمَنِ ٱتَّبَعَ رِضۡوَٰنَ ٱللَّهِ كَمَنۢ بَآءَ بِسَخَطٖ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأۡوَىٰهُ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ ٭ هُمۡ دَرَجَٰتٌ عِندَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ بَصِيرُۢ بِمَا يَعۡمَلُونَ” [آل عمران: 162-163]. وكذلك، كما في قوله عزَّ وجل: “وَلَتَجِدَنَّهُمۡ أَحۡرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَوٰةٖ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشۡرَكُواْۚ يَوَدُّ أَحَدُهُمۡ لَوۡ يُعَمَّرُ أَلۡفَ سَنَةٖ وَمَا هُوَ بِمُزَحۡزِحِهِۦ مِنَ ٱلۡعَذَابِ أَن يُعَمَّرَۗ وَٱللَّهُ بَصِيرُۢ بِمَا يَعۡمَلُونَ” [البقرة: 96].

أما في حال كان السياق القرءاني الوارد فيه التعبير “ٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ”، يتضمن خطابًا قرءانيًا حول العمل الإنساني؛ يأتي تقديم هذا العمل “بِمَا تَعۡمَلُونَ” سياقيًا على الصفة الإلهية “بَصِيرُۢ”. وذلك كما في قوله سبحانه: “وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثۡبِيتٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ كَمَثَلِ جَنَّةِۭ بِرَبۡوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٞ فَـَٔاتَتۡ أُكُلَهَا ضِعۡفَيۡنِ فَإِن لَّمۡ يُصِبۡهَا وَابِلٞ فَطَلّٞۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ” [البقرة: 265]؛ وكما في قوله تعالى: “هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يَعۡلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا يَخۡرُجُ مِنۡهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعۡرُجُ فِيهَاۖ وَهُوَ مَعَكُمۡ أَيۡنَ مَا كُنتُمۡۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ” [الحديد: 4].

وهنا، لنا أن نُلاحظ مُفتتح الآية الكريمة الأولى [البقرة: 265]، الذي ورد فيه العمل الإنساني بوضوح “وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمُ”؛ في حين أن الآية الكريمة الثانية [الحديد: 4]، تتضمن التأكيد الإلهي “وَهُوَ مَعَكُمۡ أَيۡنَ مَا كُنتُمۡۚ”؛ ولذلك، ورد تقديم العمل الإنساني، دلاليًا على الصفة الإلهية “وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ”.

وللحديث بقية.

 

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock