رؤى

الدلالة القرءانية.. ومفهوم “دلَّ” في التنزيل الحكيم

الدلالة مصدر الفعل الثلاثي “دلَّ يدل فهو دال”، وتُشير إلى الإرشاد والهداية؛ فالدلالة لسانًا، من دل عليه وإليه دَلالة ودِلالة ودُلولة، والفتح أعلى. وما يقتضيه اللفظ عند إطلاقه، جمعها دلائل ودلالات. والدلالة، “رباعية” الأركان: الدال والمدلول، والمدلول به والمدلول عليه.

وعندما تضاف إلى مصطلح “القرءان”، لتأخذ الجملة شكل “دلالة القرءان”، أو “الدلالة القرءانية”، فهي تأتي من باب الإضافة إلى السبب؛ وذلك، من منظور أن القرءان هو السبب الذي يُعرف من خلاله “مُراد الله سبحانه وتعالى”. إذ، ليس في التنزيل الحكيم كله، إلا قوله عزَّ وجل؛ أما ما فيه من أقوال الملائكة والجن والإنس والحيوان، وغيرها، فليست بأقوال مستقلة، وإنما هي “أقوال مَحْكِية” بالقول الإلهي.

ومن ثم، يأتي اصطلاح “الدلالة القرءانية” المُركب من مصطلحين؛ ليُعبر عن هداية الله سبحانه للإنسان، بأن دلَّه على الحقائق القرءانية، التي أراد الله تعالى أن يهدي بها الإنسان، إلى طريق “الحق”، لكي يتمكن من إنجاز المهمة التي أرادها الله له “وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ” [البقرة:30].

ورد لفظ “دلَّ” ومشتقاته في آيات الذكر الحكيم، في “ثمانية” مواضع؛ تشترك جميعها في توضيح وإبراز مفهوم المصطلح، الذي يتمحور حول “الإشارة إلى الشيء والإرشاد عليه”؛ وهو ما يترتب عليه وجود طرفين رئيسين هما “الدال” الذي يختص بالمصطلح، و”المدلول” الذي يتعلق بالمفهوم. هذا، فضلا عن طرفين آخرين إضافيين، هما المدلول به، والمدلول عليه.

وأولى مواضع ورود مصطلح “دلَّ”، في التنزيل الحكيم، جاء في الإشارة إلى “غواية” الشيطان لآدم عليه السلام وزوجه “فَدَلَّىٰهُمَا بِغُرُورٖۚ”. إذ، يقول سبحانه وتعالى: “فَدَلَّىٰهُمَا بِغُرُورٖۚ فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتۡ لَهُمَا سَوۡءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخۡصِفَانِ عَلَيۡهِمَا مِن وَرَقِ ٱلۡجَنَّةِۖ وَنَادَىٰهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمۡ أَنۡهَكُمَا عَن تِلۡكُمَا ٱلشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ لَكُمَا عَدُوّٞ مُّبِينٞ” [الأعراف: 22]. ومن الواضح، أن “فَدَلَّىٰهُمَا” أي: أرشدهما إلى الأكل من تلك “الشجرة” التي نهاهما الله عزَّ وجل عنها.

وكان النهي الإلهي، لآدم عليه السلام وزوجه، عن الأكل من تلك الشجرة “وَلَا تَقۡرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ”، لأن نتيجته “فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ”؛ قد جاء في قوله سبحانه: “وَقُلۡنَا يَٰٓـَٔادَمُ ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ وَكُلَا مِنۡهَا رَغَدًا حَيۡثُ شِئۡتُمَا وَلَا تَقۡرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ” [البقرة: 34]. وأيضًا، في قوله تعالى: “وَيَٰٓـَٔادَمُ ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ فَكُلَا مِنۡ حَيۡثُ شِئۡتُمَا وَلَا تَقۡرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ” [الأعراف: 19].

كذلك، ورد مفهوم مصطلح “دلَّ”، نفسه، عبر ورود المصطلح في موضع آخر من القرءان الكريم، ولكن هذه المرة في صيغة التساؤل؛ كما في قوله سبحانه: “فَوَسۡوَسَ إِلَيۡهِ ٱلشَّيۡطَٰنُ قَالَ يَٰٓـَٔادَمُ هَلۡ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلۡخُلۡدِ وَمُلۡكٖ لَّا يَبۡلَىٰ” [طه: 120].

ولنا أن نُلاحظ، كيف تحايل “ٱلشَّيۡطَٰنَ” على آدم وزوجه، من خلال “إعادة تسمية” الشجرة بأنها “شَجَرَةِ ٱلۡخُلۡدِٰ”. كما لنا أن نُلاحظ، كذلك، أن “إشارة” الشيطان إلى الشجرة، بعد إعادة تسميتها، “دال”؛ وأن المفهوم الذي استقر في ذهن آدم وزوجه “شَجَرَةِ ٱلۡخُلۡدِ”، وعُمِل به، هو المدلول. فبالرمز ومدلوله تمت العملية الإبلاغية بين الشيطان من جانب، وآدم وزوجه من جانب آخر.

ورد التساؤل “هَلۡ أَدُلُّكُمۡ” في مرات ثلاث في آيات التنزيل الحكيم؛ فيما ورد التساؤل “هَلۡ نَدُلُّكُمۡ” مرة واحدة، وذلك في قوله عزَّ وجل: “وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هَلۡ نَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ رَجُلٖ يُنَبِّئُكُمۡ إِذَا مُزِّقۡتُمۡ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمۡ لَفِي خَلۡقٖ جَدِيدٍ” [سبإ: 7]. ومن الواضح، أن الـ”رَجُلٖ” محل التساؤل، للإشارة إليه والإرشاد عليه، هو النبي الأكرم محمد عليه الصلاة والسلام.

أما بالنسبة إلى التساؤل “هَلۡ أَدُلُّكُمۡ”، فقد ورد مرتان على لسان أخت موسى عليه السلام؛ وذلك في قوله سبحانه: “إِذۡ تَمۡشِيٓ أُخۡتُكَ فَتَقُولُ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ مَن يَكۡفُلُهُۥۖ فَرَجَعۡنَٰكَ إِلَىٰٓ أُمِّكَ كَيۡ تَقَرَّ عَيۡنُهَا وَلَا تَحۡزَنَۚ وَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا فَنَجَّيۡنَٰكَ مِنَ ٱلۡغَمِّ وَفَتَنَّٰكَ فُتُونٗاۚ فَلَبِثۡتَ سِنِينَ فِيٓ أَهۡلِ مَدۡيَنَ ثُمَّ جِئۡتَ عَلَىٰ قَدَرٖ يَٰمُوسَىٰ” [طه: 40]. وأيضا، في قوله تعالى: “وَحَرَّمۡنَا عَلَيۡهِ ٱلۡمَرَاضِعَ مِن قَبۡلُ فَقَالَتۡ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰٓ أَهۡلِ بَيۡتٖ يَكۡفُلُونَهُۥ لَكُمۡ وَهُمۡ لَهُۥ نَٰصِحُونَ” [القصص: 12].

وفي هاتين الآيتين الكريمتين، يوجد من يرسل رسالة محددة، لها دلالة ومعنى، كـ”إشارة وإرشاد إلى شيء ما”، وهي هنا أخت موسى عليه السلام، كما أن هناك من يتلقى ويستوعب هذه الرسالة، وهم هنا قوم فرعون.

ثم، يأتي الموضع الثالث للتساؤل “هَلۡ أَدُلُّكُمۡ”، ضمن الخطاب القرءاني إلى “ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ”؛ وذلك في قوله سبحانه وتعالى: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ تِجَٰرَةٖ تُنجِيكُم مِّنۡ عَذَابٍ أَلِيمٖ” [الصف: 10]، ليتأكد مفهوم مصلح “دلَّ” في القرءان الكريم، بالإجابة على التساؤل، كما في الآية التالية مباشرة، في قوله سبحانه: “تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ” [الصف: 11].

إذ يؤدي الخطاب القرءاني هنا دورا دلاليا مُهما، بالنسبة إلى “ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ”؛ من منظور الإشارة إلى والإرشاد على الدال “تِجَٰرَةٖ تُنجِيكُم”، عبر توضيح المدلول من خلال الإجابة على التساؤل “تُؤۡمِنُونَ… وَتُجَٰهِدُونَ…”.

ثم، نأتي إلى الموضع قبل الأخير من ورود مصطلح “دلَّ”؛ وذلك في قوله تعالى: “فَلَمَّا قَضَيۡنَا عَلَيۡهِ ٱلۡمَوۡتَ مَا دَلَّهُمۡ عَلَىٰ مَوۡتِهِۦٓ إِلَّا دَآبَّةُ ٱلۡأَرۡضِ تَأۡكُلُ مِنسَأَتَهُۥۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلۡجِنُّ أَن لَّوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ ٱلۡغَيۡبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلۡعَذَابِ ٱلۡمُهِينِ” [سبإ: 14].

وكما هو واضح، أن “دَآبَّةُ ٱلۡأَرۡضِ”، وأكلها العصا “دال”، وأن هيئة سليمان عليه السلام وهو ميت “مدلول”؛ بما يعني أن الدابة قد أرشدت الآخرين، من “ٱلۡجِنُّ”، إلى موت سليمان، فأظهرت ما كان مخفيًا؛ أي إنها أعلمت الآخرين ما لم يعلموه، حتى صار موت سليمان واضحا بَيِّنًا.

وهنا، نأتي إلى الموضع الأخير من ورود مصطلح “دلَّ”؛ نعني قوله عزَّ من قائل: “أَلَمۡ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيۡفَ مَدَّ ٱلظِّلَّ وَلَوۡ شَآءَ لَجَعَلَهُۥ سَاكِنٗا ثُمَّ جَعَلۡنَا ٱلشَّمۡسَ عَلَيۡهِ دَلِيلٗا ٭ ثُمَّ قَبَضۡنَٰهُ إِلَيۡنَا قَبۡضٗا يَسِيرٗا” [الفرقان: 45-46]. إذ، إن كلمة “دَلِيلٗا” تأتي، في الآية الكريمة، لتأخذ معنى “دالة”؛ لأن الوظيفة التي تقوم بها “ٱلشَّمۡسَ”، في هذا المقام، هي وظيفة إظهار “ٱلظِّلَّ” والإرشاد عليه.

ولا نغالي إذا قلنا: إن هذه هي الدلالة بعينها؛ إذ، إن “ٱلشَّمۡسَ” هي الدال، وأن “ٱلظِّلَّ” هو المدلول (عليه)، وأن وظيفة الأولى في إظهار الثاني هي “الدلالة”، بالمفهوم القرءاني لمصطلح “دلَّ”.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock