عندما انتخب إبراهيم رئيسي رئيسا ثامنا للجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ تأسيسها في عام 1979، – أعطى الكثير من الوعود للشعب الإيراني؛ فيما يتعلق بأكثر من ملف، وعلى أكثر من صعيد. وقد تركزت تلك الوعود على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، وتضمنت التصدي لمعدلات التضخم المتزايدة والحد منها؛ بل وتحقيق تراجع فيها، وكذلك تعهد بمحاربة الفساد، وبناء ملايين البنايات السكنية الجديدة التي يستطيع الملايين من الإيرانيين من أبناء الطبقتين الدنيا والوسطى بشرائحهما الاجتماعية المختلفة- دفع قيمة إيجارها. إلا أن التطورات الاقتصادية حالت دون وفائه بعدد من وعوده الانتخابية، فعلى سبيل المثال استمرت معدلات التضخم في الارتفاع بشكل متواصل بحيث فاقت الـ 30% خلال الأشهر السابقة على وفاته، كما أن قيمة العملة الوطنية الإيرانية (الريال) استمرت في التراجع أمام الدولار الأمريكي. وبالإضافة إلى ذلك، فقد حدثت أزمات في توافر المياه للمواطنين، وإن كان جزءا لا يستهان به من تلك الأزمة تحديدا تسببت فيها اعتبارات تتعلق بتغيّر المناخ.
وعلى الصعيدين السياسي والأمني، فقد حدث في السنوات الثلاثة التي تولى خلالها الرئيس الراحل منصب الرئيس انفجاران في مدينة “كارمان” الإيرانية في يناير 2024، أوديا بحياة 80 شخصا وأصابا أكثر من 200 شخصا، وأعلن تنظيم “الدولة الإسلامية” مسئوليته عنهما، وهو أكبر هجوم إرهابي داخل إيران منذ انتصار الثورة الإيرانية عام 1979.
وعند اختياره لوزرائه في عام 2021، كان رئيسي قد عمد إلى الرهان على قيادات سابقة في الحرس الثوري الإيراني (الباسداران) لشغل مناصب وزارية هامة، كان منها على سبيل المثال منصب وزير الداخلية، وذلك بدعم قوي استمر لمدة الألف يوم التي شغل خلالها رئيسي، منصب رئيس الجمهورية، من جانب مرشد الثورة خامنئي.. كما سعى خلال سنوات رئاسته للجمهورية منذ عام 2021، إلى تعزيز قوة كل من السلطة القضائية، والتي عمل هو نفسه فيها بدءا من عقد الثمانينيات من القرن العشرين، وتولى مسئوليتها قبيل انتخابه رئيسا للجمهورية، وكذلك التركيز على زيادة قوة وكفاءة الأجهزة الأمنية في إيران.
وقد شهدت سنوات حكمه عددا من التظاهرات والاحتجاجات المناهضة لحكمه، وقد واجه فيما بعد اتهامات، خاصة من وسائل الإعلام الغربية، بأنه أمر بالتصدي لتلك التظاهرات والاحتجاجات بشكل اتسم بالعنف، وقد حرص دائما على نفي مصرع أي من المتظاهرين أو المحتجين؛ حتى في الحالة الشهيرة التي تُحدِّثَ فيها عن استخدام مفرط للعنف من جانب الأجهزة الأمنية الإيرانية في مواجهة تظاهرات واسعة النطاق قادتها نساء وشباب وجرت في عام 2022، ضد التضييق على حريات وحقوق المرأة الإيرانية وللمطالبة بإلغاء فرض “الشادور” على المرأة الإيرانية، وإجراء تعديلات تشريعية في القوانين الإيرانية لصالح المرأة، وكانت هذه التظاهرات قد اندلعت احتجاجا على وفاة الطالبة الإيرانية “مهسا أميني” التي قُبِضَ عليها بتهمة عدم ارتداء “الشادور” وعدم الالتزام بـ “الزي الإسلامي” للمرأة، وتوفيت عقب ذلك في المستشفى في 16 سبتمبر 2022، وذكرت عدة جهات إيرانية معارضة وجهات دولية معنية بحقوق الإنسان، أن الوفاة كانت بسبب ما تعرضت له من عنف بدني، خلال فترة احتجازها من قبل بعض الأجهزة الأمنية الإيرانية.
إلا أنه في مواجهة تلك الاتهامات، سعت دوائر الحكم الإيراني، بما في ذلك الرئيس الراحل رئيسي شخصيا والأجهزة الأمنية إلى تكرار نفي وإنكار حدوثه. فقد أعلن الرئيس الراحل وقتها أن وفاة أميني كان “حادثة”، مؤكدا أن حكومته سمحت بالتظاهرات، وأنها استمعت إلى أصوات المحتجين ولم تقمعها، مُذكّرا الغرب بحوادث مماثلة تحدث في بلدانهم. كما أنه في مرحلة لاحقة أكد وجود حرية تعبير في إيران، ونفى بشكل قاطع؛ قطع السلطات للانترنت خلال التظاهرات التي أعقبت وفاة أميني، أو التضييق على وسائل التواصل الاجتماعي أو اعتقال عدد من الصحفيين الإيرانيين في أعقاب التظاهرات, وذهب رئيسي في عدة مناسبات تالية، بما في ذلك خلال كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في سبتمبر من عام 2023، إلى اتهام الغرب باختلاق تلك الاتهامات لزعزعة الاستقرار الداخلي لإيران.
إلا أن بعثة تقصي حقائق تابعة للأمم المتحدة قدمت تقريرها في مارس 2024، إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة؛ حيث خلصت نتائج مهمتها إلى اعتبار وفاة مهسا أميني؛ نتيجة لاستخدام عنف بدني ضدها دونما تحديد للمسئول عن هذا العنف. وقد اعتبر ذلك التقرير أيضا أن السلطات الإيرانية استخدمت القوة بشكل زائد عن الحد، وبشكل لم يكن ضروريا في مواجهة المظاهرات التي اندلعت عقب وفاة أميني؛ بغرض التصدي لها، حيث لم تكن حياة رجال الأمن معرضة للتهديد من جانب المتظاهرين، وأعرب التقرير عن الأسف لسقوط عشرات القتلى في صفوف المتظاهرين خلال تلك التظاهرات، كذلك لاعتقال المئات من المشاركين فيها. وفي نفس التقرير ذكرت البعثة أنها تواصل التحقيق في اتهامات وجهها ناشطون سياسيون معارضون للحكومة الإيرانية يحملونها فيها مسئولية وفاة الفتاة الإيرانية أرميتا جارافاند عام 2023، بسبب سقوطها من مترو طهران، حيث اعتبر هؤلاء أن الفتاة تعرضت للهجوم عليها في المترو من الشرطة الإيرانية، بسبب عدم ارتدائها “الشادور”، وهو الأمر الذي تسبب في سقوطها.
وكان المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان قد اتهم في تصريحات له صدرت في عام 2023، السلطات الإيرانية بأنها تستخدم الإجراءات الخاصة بالقانون الجنائي لمعاقبة المعارضين السياسيين.
إلا أن بعض المحللين اعتبروا أن العنف في مواجهة التظاهرات الاحتجاجية – ليس مقصورا على فترة رئاسة رئيسي؛ ودللوا على ذلك بما واجهته موجة مظاهرات احتجاجية مماثلة جرت في عام 2019، تحت رئاسة الرئيس السابق حسن روحاني، المحسوب على التيار الإصلاحي أو المعتدل، من عنف في التصدي لها أيضا من قبل الأجهزة الأمنية الإيرانية.
كما برزت قضية الناشطة الإيرانية في مجال حقوق الإنسان السيدة نرجس محمدي، الحاصلة على جائزة نوبل للسلام، والتي تعرضت لمضايقات من الشرطة الإيرانية ثم اعتقالها بتهمة الدعاية ضد الحكم الإيراني، وبدأت محاكمتها يوم الأحد الموافق 19 مايو 2024، علما بأن هناك ناشطين إيرانيين آخرين في مجال الدعوة لاحترام الحقوق الإنسان؛ أعلنوا من قبل التعرض لمضايقات واعتقالات من جانب الأجهزة الأمنية الإيرانية، ونذكر هنا أن نرجس محمدي كانت قد اتهمت بعض أفراد الأمن الإيرانيين بالاعتداء الجنسي على عدد من المتظاهرات الإيرانيات خلال التظاهرات التي اندلعت في أعقاب وفاة مُهسا أميني.
ومن الهام أن نلفت النظر هنا، إلى أن رئيسي كان يتعرض منذ عقد الثمانينيات من القرن العشرين، إلى اتهامات من جماعات وشخصيات المعارضة الإيرانية؛ بأنه كان مسئولا -بسبب موقعه القيادي في السلطة القضائية الإيرانية آنذاك- عن إصدار أحكام وصفها المعارضون بأنها كانت “سريعة ومتسرعة” بالإعدام ضد مئات، إن لم يكن آلاف، المعارضين للحكم الإيراني آنذاك، خاصة في عام 1988.
وعلى الصعيد السياسي أيضا، ولكن على المستوى المؤسسي، فإن انتخابات مجلس الخبراء المعني باختيار المرشد القادم والتي جرت هذا العام؛ قد شهدت حملة استبعاد واسعة شملت كل من لا ينتمي إلى المعسكر المحافظ بزعامة المرشد الحالي، والذي يندرج فيه بقوة الرئيس الراحل، بل وصل الحد إلى استبعاد الرئيس السابق حسن روحاني الذي عُرف بمواقفه الوسطية والمعتدلة، حتى وإن لم تكن تقدمية أو منفتحة مثل حال الرئيس الأسبق سيد محمد خاتمي على سبيل المثال. وكان المستهدف من ذلك ضمان أن يحكم المعسكر المحافظ قبضته على كافة المفاتيح، ويضمن سيطرته على كل مؤسسات الدولة في إيران. وإن كان ذلك الهدف قد تحقق بالفعل فإنه فتح الباب لاتهامات -كما في كل انتخابات منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية عام 1979- بأن عملية استبعاد بعض المرشحين قبل أي انتخابات يعتبر نوعا من تدخل جهة الإدارة في العملية الانتخابية، باعتبار أن معايير الاستبعاد ليست واضحة وقاطعة ومحددة.
وبشكل عام، فإن الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي، سعى خلال سنوات رئاسته الثلاثة المنقضية، وربما لأول مرة في تاريخ الجمهورية الإسلامية، أن يوحد صفوف المعسكر المحافظ داخل النخبة السياسية الإيرانية الحاكمة، وتجنب أي انقسامات داخل ذلك المعسكر، كما كان الحال من قبل.
ومن الظواهر التي شهدتها العملية السياسية الإيرانية خلال عهد رئيسي- الانخفاض النسبي في عدد المواطنين الإيرانيين المشاركين في عمليات التصويت في الانتخابات المتتالية. فبينما كانت الانتخابات التي أتت برئيسي نفسه إلى سدة رئاسة الجمهورية في عام 2021، كانت الأقل من حيث نسبة المشاركين في الانتخابات الرئاسية الإيرانية، والوحيدة التي قلت فيها نسبة المشاركين عن 50%، فإن انتخابات مجلس الشورى الإيراني (البرلمان) التي جرت في وقت مبكر من هذا العام 2024، وتحديدا في شهر مارس، قد شهدت بدورها انخفاضا كبيرا في نسبة المشاركين، حتى إذا ما قارناها بالانتخابات الرئاسية لعام 2021، حيث وصلت نسبة المشاركة إلى 41%، وهو ما فسره البعض بأنه تعبير عن حالة عدم رضاء عامة؛ لدي قطاع متزايد من المواطنين الإيرانيين عن أداء الدولة السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
ومن جهة أخرى، فسر البعض الآخر تراجع نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية الأخيرة؛ بأنه يعود إلى إصرار الحكومة، على استبعاد عدد كبير من المرشحين، الذين وان انتموا إلى معسكر الموالين لنظام الجمهورية الإسلامية، فإن لهم توجهات تقدمية أو على الأقل إصلاحية أو ليبرالية، واعتبر هؤلاء أن مثل ذلك النطاق الواسع، من استبعاد المرشحين غير المنتمين للتيار المحافظ؛ كان يعني أن المرشد خامنئي والرئيس الراحل رئيسي، كان الأهم وذو الأولوية لهما هو ضمان السيطرة الكاملة أو شبه الكاملة للتيار المحافظ على مجلس الشورى، خاصة في تلك المرحلة التي قد تكون عملية اختيار المرشد القادم للثورة قريبة في ضوء تقدم سن المرشد الحالي خامنئي (85 عاما)، والحرص على أن يكون المرشد القادم أيضا من المنتمين للتيار المحافظ.
وكان الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي من أبرز المرشحين لخلافة خامنئي في منصب المرشد، خاصة في ظل دعم الحرس الثوري الإيراني (الباسداران) له، إلا أن وفاته طرحت تحديا جديدا أمام المعسكر المحافظ بقيادة المرشد الحالي؛ لإيجاد مرشح بديل قوي يستطيع أن يوحد خلفه المنتمين لخندق المحافظين في النظام السياسي الإيراني.
وإن كان البعض يطرح بقوة اسم مُجتبَى (نجل خامنئي) ليكون المرشد القادم، وهو أيضا من رجال الدين المنتمين للمؤسسة الدينية الشيعية، ويبلغ من العمر حاليا 55 عاماً، فإن البعض يتخوف من أن يؤدي ذلك إلى سابقة يعتد أو يؤخذ بها في المستقبل، سواء في منصب المرشد أو في غيره من المناصب القيادية في الدولة، حيث أنها ستكون المرة الأولى في تاريخ الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي يورّث فيها منصب رفيع في الدولة؛ بل المنصب الأهم والأكثر تأثيرا ووزنا وقوة.
إلا أن الأمر يستوجب وضع أمرين في الاعتبار؛ لنفهم منطلقات ودوافع المتحفظين على تولي نجل المرشد الحالي منصب أبيه بعد وفاته. أما الاعتبار الأول فهو أن الشعب الإيراني ثار منذ ما يقرب من نصف القرن ضد تعاقب الحكم الامبراطوري الذي كان قائما على توريث الحكم، سواء بالنسبة لأسرة بهلوي أو من قبلها من أسر امبراطورية حكمت إيران على مدار مئات السنين، وبالتالي فإن تقبل أن يخلف نجل المرشد والده في منصبه بعد وفاته؛ قد يثير حفيظة قطاعات من الشعب الإيراني ترى أن الإنجاز الأهم الباقي حتى الآن من إنجازات تلك الثورة هو إنهاء مبدأ “التوريث”، حتى ولو جاء من خلال اختيار مجلس الخبراء للوافد الجديد لمنصب المرشد. أما الاعتبار الآخر، فهو أنه حتى آية الله الخميني نفسه، وباعتباره الزعامة التاريخية للثورة، وبكل ما منحه ذلك له من شرعية ثورية وجماهيرية واسعة استمرت حتى وفاته، بالرغم من تراجعها خلال الفترات الأخيرة من الحرب العراقية الإيرانية، فإنه لم يسع بأي شكل من الأشكال إلى أن يخلفه ابنه أو أي من أقربائه في منصب المرشد بل بدا حينذاك مناهضا لمثل ذلك التوجه عندما طرحه آخرون.
ولا ننسى أن نذكر هنا أن الرئيس الراحل رئيسي، عُرف بسعيه إلى إعادة فرض “الشادور” (الزي الإسلامي للمرأة طبقا لرؤية رجال الدين المنتمين لخط الإمام، أي الموالين للرؤية العقائدية والفقهية لآية الله الخميني)، في مواجهة ما اعتبره تهاون في فرضه على المرأة الإيرانية في ظل حكم رؤساء جمهورية سابقين عليه، سواء حسن روحاني قبله مباشرة أو محمد خاتمي، أو حتى هاشمي رفسنجاني.
ويمكننا أن نخلص هنا إلى أن الحكم الإيراني أراد إيصال رسائل واضحة بعد وفاة رئيس الجمهورية ووزير الخارجية في الحادث، وهي أن تماسك النظام السياسي لن يتأثر حيث كُلّفَ النائب الأول بتولي مسئوليات الرئيس بالإنابة كما كُلّفَ مساعد وزير الخارجية بتولي مهام وزير الخارجية بشكل مؤقت، وأعلن عن تنظيم انتخابات رئاسية قادمة في 28 يونيو 2024، وكذلك إبراز أن النظام السياسي الإيراني يقوم على المؤسسات وليس الأفراد، وبالتالي لا يتأثر ولا تتأثر توجهاته وسياساته بالوفاة المفاجئة لرئيس الجمهورية ووزير الخارجية أو أي مسئول آخر مهما علا قدر منصبه.