ثقافة

المنهج الأنثروبولوجي.. مطبخ إعادة بناء التاريخ البشري! (2-2)

إن تطبيق المنهج العلمي في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية يختلف عنه في مجال الطبيعيات بشكل عام، حيث إننا في مجال الطبيعيات نستطيع أن نبسط الظاهرة، كما أن بإمكاننا أن نعزل هذه الظاهرة عن المجتمع، لكن الأمر يختلف اختلافا كليا في الظواهر الاجتماعية والإنسانية، وذلك لأن هذه الظواهر عبارة عن ظواهر معقدة ومن الصعب للغاية أن تعزلَ صناعيا.

ولقد أدى استخدام المنهج العلمي في الدراسات الأنثروبولوجية إلى ظهور عدد من القضايا المنهجية ومن أبرز هذه القضايا استخدام مصطلح الضبط في الدراسات الأنثروبولوجية، ولقد جعل هذا الاستخدام من الأنثروبولوجيا علما.

وهكذا نرى أن المنهج الأنثروبولوجي من أهم المناهج التي تستخدم في الدراسات الكيفية، ولقد تطور هذا المنهج كثيرا في الفترة الأخيرة، وأصبح منهجا قائما بحد ذاته على الرغم من عدم اختلاف بعض العلماء في هذا الأمر، والذين لم يعتبروه منهجا مستقلا بذاته.

وفيما يتعلق بالباحث فهو من  يعايش ويلاحظ ويرصد ويحلل كل ما يراد دراسته ويجيب عليه وتحديد الجماعة المراد دراستها، كما يجب أن يختار المنهج المناسب إلى جانب المنهج الأنثروبولوجي مثل دراسة الحالة – المنهج التاريخي- المنهج المقارن، أدواته المقابلة والاستبيان والملاحظة. ومن أهم المشاكل التي قد يواجهها:

1) صعوبة تعامل الباحث مع المجتمع المدروس؛ نظرا لاختلاف الدين والعادات والتقاليد واللغة.

2) لا يعرف الباحث هدفه جيدا.

3) ألا يكرر الباحث فكره عن الموضوع المدروس.

4) أن يفسر سلوك الأشخاص الذين يلاحظهم وفقا للمعاني التي تسود حياتهم اليومية ما يصعب عليه ذلك في كثير من الأحيان، فيجد نفسه متحيزا.

5) إن عدد من العينات المراد دراستها لا تتعامل مع الباحث بتلقائية لتظهر أمامه بمثالية مصطنعة.

تشير كلمة أنثروبولوجيا Anthropology كما ذكرنا في المقالات السابقة، إلى أنها كلمة إنجليزية مشتقة من الأصل اليوناني المكون من مقطعين: أنثروبوس Anthropos، ومعناه “الإنسان” ولوجوس Locos، ومعناه “علم “. وبذلك يصبح معنى الأنثروبولوجيا من حيث اللفظ “علم الإنسان” أي: العلم الذي يدرس الإنسان. وتعرّف الأنثروبولوجيا، بأنها: العلم الذي يدرس الإنسان من حيث هو كائن عضوي حي، يعيش في مجتمع تسوده نظم وأنساق اجتماعية في ظل ثقافة معينة، ويمارس أعمالا متعددة، ويسلك سلوكا محددا، وهو أيضاً العلم الذي يدرس الحياة البدائية، والحياة الحديثة المعاصرة، ويحاول التنبؤ بمستقبل الإنسان معتمدا على تطوره عبر التاريخ الإنساني الطويل.. ولذا يعتبر علم دراسة الإنسان (الانثروبولوجيا) علما متطورا، يدرس الإنسان وسلوكه وأعماله.

إذن هو يُعنى بوصف الخصائص الإنسانية البيولوجية والثقافية للجنس البشري عبر الأزمان وفي سائر الأماكن وتحليل الصفات البيولوجية والثقافية والأنساق المترابطة والمتغيرة وذلك عن طريق نماذج ومقاييس ومناهج متطورة ووصف وتحليل النظم الاجتماعية للإنسان.

2- استخدامات المنهج الأنثروبولوجي: إن من سمات هذا المنهج قدرته على الولوج داخل المجتمعات ودراسة بعض الظواهر الإنسانية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية بها، وذلك لتوفر بعض الأدوات المساندة للباحث، وكذلك عن طريق المناهج الفرعية المنبثقة منه كالمنهج الحقلي على سبيل المثال، وباستطاعة الباحث الأنثروبولوجي، متى ما توفرت لديه الخصائص والأدوات البحثية والمعطيات التي تجعله قادرا على الوصول بدراسته الأنثروبولوجية بر الأمان، أن يحقق نتائج موضوعية وجديرة بالاطلاع العلمي، وحتى في أصعب المجتمعات التي يقصد دراستها، شريطة أن يلتزم بالمنهج العلمي والأخلاقيات المهنية، وأن يختار الأسلوب الصحيح، وكذلك فإن الباحث كلما كان مُلما ببعض الجوانب الخاصة بالمجتمع الذي يريد دراسته – كان الأمر بالنسبة له أكثر مرونة وسهولة، بعكس تلك المجتمعات التي يجهلها أو تتسم ببعض الغموض بالنسبة له، ولا يعلم عنها إلا القليل، ومن الأساليب الشهيرة والأساسية التي يعتمد عليها الباحث الأنثروبولوجي المعايشة الفعلية داخل المجتمع المراد دراسته – الملاحظة بالمشاركة.

3- استخدام المنهج الأنثروبولوجي في الدراسة الميدانية: يسمى هذا النوع من الدراسات في علم الأنثروبولوجيا بـ ” الدراسات الحقلية “، وهي تعد من الخصائص المميزة للأنثروبولوجيا الثقافية،  وذلك أنها تعتمد على هذه الدراسات الحقلية بشكل كبير، والتي تهدف إلى رؤية الثقافة المحلية أو الثقافات الأخرى عن قرب، فهي بمثابة التجربة العملية التي تقابل المعمَل بالنسبة للباحث في العلوم الطبيعية، فهناك أساليب للبحث الميداني تمكن الباحث من الحصول على المادة المنشودة، والتي ستكون وثيقة الصلة بالسمات والمكونات الثقافية للمجتمع المراد دراسته، ومن خلال هذه المعلومات يتمكن الباحث من تحليل المجتمع ووصفه بشكل دقيق.

يذهب الباحث الأنثروبولوجي لكي يؤدي بعمله إلى موطن الشعب أو المجتمع الذي اختاره موضوعا للدراسة، فيستمع إلى أحاديثهم ويزور بيوتهم، ويلاحظ سلوكهم العادي، ويسألهم عن تقاليدهم، ويتآلف مع طريقة حياتهم حتى تصبح لديه فكرة شاملة عن ثقافتهم، أو يحلل جانبا خاصا من جوانبها. فالباحث الأنثروبولوجي في عمله هذا، يجمع المعلومات، ويحللها ويربطها بمعلومات أخرى، عندما يرجع من الميدان، ويخرج منها بنتائج محددة.

4- أدوات المنهج الانثروبولوجي: لقد أقر علماء الانثروبولوجيا بعض الطرائق الميدانية التي يمكن اعتبارها أدوات عمل فاعلة في العمل الميداني، وهي كما يلي:

1- طريقة الملاحظة المباشرة: هي أحد الأساليب التي يستخدمها الباحث المقيم، في دراسة الشعوب البدائية. ويقوم هذا الأسلوب على مراقبة أو معاينة ومقابلة أفراد الشعب الذي تجري عليه الدراسة، في أثناء تأدية أعمالهم اليومية المعتادة. وكذلك حضور المناسبات العامة التي يقيمها أبناء هذا الشعب. ورصد الحركات والتصرفات، وتسجيل ما يجدر تسجيله من حوارات ونحوها، وما إلى ذلك من التعبيرات التي يبديها الأفراد في هذه المناسبات.

وهذا يقتضي من الباحث الأنثروبولوجي أن يقيم فترة لا تقل عن (7-8) أشهر، في المجتمع المدروس، وتفهم ما يدور فيه. فالباحث المحترف لا بد وأن يغرق نفسه في حياة الناس، وذلك، لأن البحث لا يتحقق إلا بالإقامة الطويلة لشهور عديدة في المجتمع المحلي. كما يفضل أن يحسن الباحث لغة التخاطب بلغة الأهالي، حتى وإن كان السلوك الذي يشاهده غير لفظي. والإقامة في مجتمع البحث، تعني ملاحظة دقائق الحياة اليومية كما تجري بين الناس.

2- المـقـابلـة: إن الدافع لاستخدام المقابلة، أثناء إجراء البحث الأنثروبولوجي الميداني، هو السعي لمعرفة وجهة نظر أفراد مجتمع الدراسة، وأسلوبهم المتميز في النظر للأشياء والكائنات، ولن يتأتى هذا إلا باستخدام طريقة الحوار، والمقابلة كما نعلم نوعان: مقابلة موجهة ومقابلة غير موجهة، وينصح المختصين في مجال الأنثروبولوجيا باعتماد النوع الثاني من المقابلة، وذلك لأنه يعطي الحرية الكاملة والارتياح النفسي للشخص الذي تجرى معه المقابلة (المبحوث) للإدلاء بآرائه حول الموضوعات المستفسر عنها.

وخلال المقابلة يتلخص موقف الباحث في أن يكون مستمعاً وملاحظا جيدا، فهو يستمع لكل كلمة تقال وفي الوقت نفسه يلاحظ كل الإيماءات والايعازات وحركات الأيدي وباقي أعضاء الجسم خلال الحديث، والاستماع يعني ألا يوجه الباحث أفكار الإخباري بل يساعده فقط على أن يعبر عنها بالصورة التي تفيد الدراسة، فينتبه جيداً إلى ما يقول، وعندما يتوقف يساعده على الاسترسال بإعادة آخر جملة ذكرها في صيغة سؤال، أو إثارة سؤال حول آخر ملاحظة أبداها، أو الربط بين الملاحظة الأخيرة وملاحظة واقعة أخرى سابقة، أو إدخال عنصر جديد في المناقشة ليكون نقطة انطلاق جديدة لمزيد من الأسئلة، وفي كل هذه الحالات ينبغي أن تظل المناقشة تحت سيطرة الباحث دون أن يشعر الإخباري بذلك.

– أنواع المقابلة: تنقسم إلى ما يلي:

أ- المقابلة الموجهة: هي عكس المقابلة الحرة، ففي هذه الحالة يعد الباحث استمارة تحتوي على مجموعة من الأسئلة توضع غالبا بدقة محكمة ومضبوطة، حول الموضوع أو الظاهرة التي نريد دراستها، وبعد ملء الاستمارات من طرف أفراد العينة المحددة، يسترجعها الباحث، ليفرّغها، وقليلا ما تستخدم المقابلة الموجهة في الدراسات الأنثروبولوجية ، إلا إذا أجري البحث الانثروبولوجي في مجتمع متقدم أو متمدن، خصوصا وأن الانثروبولوجيا في وقتنا الحالي صار مجال اهتمامها أيضا المجتمعات الصناعية المتقدمة أو المجتمعات الحضرية، وسيظل استخدام المقابلة الموجهة، أو إعداد استمارة أثناء دراسة مجتمعات بدائية، أو قروية غير مجدي، لأن ذلك يكون مثار شكوك وقلق من طرف الأهالي تجاه الباحث الذي ينظر إليه على أنه غريب، وبالتالي فالأنسب في مثل هذه المجتمعات هو الاعتماد على المقابلة غير الموجهة .

ب- المقابلة غير الموجهة: يقصد بالمقابلة غير الموجهة، أو المقابلة الحرة، هي أن يعمد الباحث للاتصال بأفراد، غالبا ما يتمتعون بشأن ومكانة داخل الجماعة، حيث يمتلكون رصيداً هائلا من الأخبار والمعلومات لا سيما ما تعلق منها بالبناء الثقافي، والبناء الاجتماعي للمجتمع، ويقوم الباحث بتوجيه أسئلة منوعة لهؤلاء الإخباريين ويترك لهم حرية الإجابة، فيسترسلون في الكلام، وعلى الباحث ألا يوجه إجاباتهم وجهة معينة وفي هذه الحالة على الباحث أن يسجل جملة الإجابات.

خلاصة القول إن المنهج الانثروبولوجي متى ما استخدمت أدواته بالشكل الصحيح؛ فسوف يؤدي بطبيعة الحال لنتائج تستحق الإشادة العلمية، وهذا المنهج كسائر المناهج العلمية، لديه مفاتيح – أدوات – ومن أهم أدوات هذا المنهج هي الدخول في المجتمع المراد دراسته ومشاركته العيش كجزء من أفراده المكونين له، ومن ثم يشرع الباحث الانثروبولوجي باستخدام بعض الأدوات ومنها: الملاحظة بالمشاركة، والمقابلة بنوعيها، وتاريخ الحياة، ودراسة الحالة، واستخدام التقنية الحديثة.. وغيرها من الوسائل التي تحقق الهدف المنشود وبإمكانية الباحث المزج بين بعض هذه الأدوات أو الاستعانة بأحدها بشكل منفرد حسب متطلبات البحث وطبيعة المجتمع المدروس.

إن الانثروبولوجيا، علم منهجي والبحث الميداني من أهم مقومات نجاحه. وهذا يتطلب من الباحث معرفة الطريقة التي عليه أن يستخدمها، واضعا نصب عينيه أن المشكلة التي يدرسها، هي في الأساس مشكلة إنسانية. كما أن الواجب البحثي يقتضي أن يتمتع الباحث، بدرجة عالية من الحساسية تجاه قيم الناس الذين يتعامل معهم، ومعرفة القوانين التي تحكم سلوكياتهم وأساليب التعامل معهم، وهذا ما يتيح له بناء علاقة ودية معهم، وتسهل بالتالي الحصول على ما يريده من معلومات.

– مراجع المقال:

– إدغار موران: المنهج – معرفة المعرفة: انثروبولوجيا المعرفة، ترجمة: جمال شحيّد، مراجعة: موريس أبو ناضر، المنظمة العربية للترجمة، الجزء: الثالث، بيروت، ط1، 2012.

– مارك أوجيه وجان بول كولاين: الانثروبولوجيا، ترجمة: جورج كتوره، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، ط1، 2008.

– محمد الجوهري وآخرون: الانثروبولوجيا الاجتماعية قضايا الموضوع والمنهج، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 2004.

– كلود ليفي ستروس: الانثروبولوجيا البنيوية، ترجمة: مصطفى صالح، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1977.

– عيسى الشماس: مدخل إلى علم الإنسان (الانثروبولوجيا)، منشورات اتحاد كتاب العرب، دمشق، 2004.

– فاروق مصطفى إسماعيل: الانثروبولوجيا الثقافية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، فرع الإسكندرية، ط1، 1980.

– فريدريك بارث وآخرون: الانثروبولوجيا – حقل علمي واحد وأربع مدارس، ترجمة: أبو بكر باقادر وإيمان الوكيلي، مراجعة: ساري حنفي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قطر، ط1، 2017.

– مجموعة باحثين: الانثروبولوجيا قراءة تحليلية – نقدية في سياقاتها التاريخية (مناهجها، نظرياتها، ومبانيها)، تقديم وتحرير: سامر توفيق عجمي، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، النجف (العراق)، ط1، 2023.

حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة قسم علم الاجتماع - كلية الآداب في جامعة ماردين - حلب سابقاً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock