رؤى

حول مفهوم إيديولوجيا اللغة.. اللسانيات الاستعمارية نموذجا (1-2)

يهدف المقال إلى توضيح مفهوم إيديولوجيا اللغة؛ من خلال إبراز الكيفية التي ترتبط بها معتقدات المتحدث اللغوية بالنظم الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، التي ينتمي إليها أفراد مجتمع ما، في محاولة للتعرف عليها واستكشافها لتحديد مضامينها الفكرية والإيديولوجية، حيث ترتبط إيديولوجيا اللغة بالافتراضات الصريحة والضمنية للغة ما، بالتجربة الاجتماعية والاهتمامات السياسية والاقتصادية.

لقد عُرّفت الإيديولوجيات اللسانية وإيديولوجيات اللغة على أنها مجموعة من المعتقدات عن اللغة التي يجيدها المستخدمون كوسيلة لعملية العقلنة أو التبرير لبنية استخدام لغوي مدرك، مع تأكيدات اجتماعية قوية على أنها تشكل أفكارا وأهدافا مؤكدة – لذاتها لدى مجموعة ما بخصوص أدوار اللغة في التجارب الاجتماعية للأفراد وهم يسهمون في التعبير عن المجموعة، وهي عبارة عن النظام الثقافي لرؤى عن العلاقات الاجتماعية واللسانية، إضافة إلى حمولتها من الاهتمامات الأخلاقية والسياسية. وبشكل واسع جدا بوصفها “مجموعة أفكار مشتركة من الذوق العام حول طبيعة اللغة في العالم”. وتأتي الاختلافات البارزة بين هذه التعاريف من الجدل حول مفهوم الإيديولوجيا نفسه.

تعتبر الإيديولوجيا من الألفاظ التي توجد لها تعريفات متعددة، وذلك باختلاف الأبعاد التي ينظر الباحث أو الناقد منها لهذا المصطلح، فيرى بعضهم أنها “علم الأفكار” أو معتقد أو مذهب فكري سياسي تعتنقه جماعة بشرية في تصورات وأفكار اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية. وهي كما بيّن العروي تعني بالفرنسية علم الأفكار، ويرى أنها ترتبط بأشياء متعددة وارتباطها بهذه الأشياء هو الذي يحدد دلالتها، فمثلا عندما يدرس الباحث إيديولوجيا عصر من العصور فإنما “يدرس الأفق الذهني الذي كان يجسد فكر الإنسان في ذلك العصر”، بالإضافة إلى معنى عبارة فلان يملك نظرة إيديولوجية للأشياء فهي تعني “أنه يتخير الأشياء ويؤول الوقائع بكيفية تظهرها دائما مطابقة لما يعتقد أنه الحق”، وكذلك لها معنى مرتبط بالرؤية الكونية ويقصد بها” مجموعة من المقولات والأحكام حول الكون”.

ويمكن تعريفها بأنها “نظام من الأفكار التصورية يكمن خلف السلوك الاجتماعي أو الثقافي (الديني، أو الأدبي أو الفني أو الفكري أو السياسي… إلخ) ليوجهه، ويحدد مساره، وطبيعته، وهدفه في الحاضر والمستقبل معا. الأمر الذي يتيح الحديث عن: إيديولوجيا سياسية، أو إيديولوجيا اجتماعية، أو إيديولوجيا تسكن أعماق الأدب والفن”.

فالإيديولوجيا باختلاف أنماطها وتعريفاتها يمكن أن ترتبط بالأدب، لأن الأدب يعبر عن الأفكار فهو إنتاج إيديولوجي، بل إن النص الأدبي يعمل على تنظيم الإيديولوجيا ويعطيها شكلا ودلالات متميزة لأن النص الأدبي يتميز بصياغته الأدبية والفنية لهذه الإيديولوجيا، ما يضفي عليها أبعادا وظلالا مختلفة ومتنوعة، بالإضافة إلى هذا، فإن الأدب يعبر فيه الأديب عن موقفه من المجتمع ومن الحياة الاجتماعية من حوله.

وعلى العموم، تعبّر الأبحاث في هذا السياق عن  آراء العلماء عن الإيديولوجيا: ابتداء من المفاهيم التي تبدو كما لو أنها محايدة ثقافيا للغة وصولا إلى الإستراتيجيات المستخدمة لصيانة القوة الاجتماعية، ومن قراءة لا واعية للإيديولوجيات المتصلة بالممارسات الكلامية من طرف محللين إلى الشروح الأكثر وعيا عن اللغة، أي لما يُعدّ سلوكا لغويا مناسبا. وما يشترك فيه معظم الباحثين وما يجعل المصطلح مفيدا رغم كل مشاكله هو النظر إلى الإيديولوجيا على أنها متجذرة فيها ومسئولة عن تجربة موقف اجتماعي خاص، وهو أمر تظهره تعاريف هيث وأرفين. ولا يُلغي هذا الاعتراف بالاشتقاق الاجتماعي للتمثيل إذا ما أخذنا في اعتبارنا أنه لا توجد معرفة امتيازية، بما في ذلك المعرفة العلمية التي تتهرب أو تتعالى على الهبوط إلى الحياة الاجتماعية، ولكن مع كل ذلك يشير مصطلح الإيديولوجيا إلى أن المفاهيم الثقافية التي ندرسها هي مفاهيم جريئة يجب تفنيدها وهي حاملة لأهداف ومصالح خفية. والحركات المطبّعة التي تمتص المفاهيمي من محتواه التاريخي، وتجعله يظهر كحقيقة كونية، غالبا ما تُرى على أنها مفتاح العملية الإيديولوجية.

بذلك، تتصل إيديولوجيا اللغة بالطرق التي تُتصور بها اللغة، ويعتقد أنها تُعبّر بها عن مناحٍ أخرى من الحياة الاجتماعية. فالمعتقدات المتمحورة حول علاقة اللغة بالواقع وكيفية عمل الاتصال وحول السلامة اللغوية والخير والسوء والفصاحة والعي، تمثل كلها جوانب من إيديولوجيا اللغة، مثلها مثل المعتقدات المتعلقة بدور اللغة في تشكيل كينونة الفرد والمعتقدات الدائرة حول كيف تُعلّمت اللغة، وتلك المُنصبّة على ماهية الوظائف التي ينبغي أن تكون للغة وماهية السلطات المسئولة عن اللغة؟ وكيف ينبغي تقنين استخدام اللغة؟ وما إلى ذلك.

إن إيديولوجيا اللغة محطُّ اهتمام دارسي اللغة، وكذلك دارسي الحياة الاجتماعية، لأن المعتقدات الدائرة حول ماهية اللغة، وكيف تعمل يمكن لها أن تمس اللغة مثلما تمس العلاقات الاجتماعية بين المتكلمين.

لقد سبق لإيديولوجيا اللغة أن بُحثت في سياق الانثروبولوجيا اللغوية* linguistic anthropology  كما إن علماء اللسانيات الاجتماعية sociolinguists اهتموا هم أيضا بالكيفية التي تؤثر بها المعتقدات حول اللغة على الخيارات التي يتبناها المتكلمون. فالبحث في مجال إيديولوجيا اللغة، يظهر كيف أن الخيارات اللغوية والتغير اللغوي، تتأثر بتصوُّر الناس عن اللغة واستعمالها، ويكشف عن توزع عمليات صياغة المفاهيم السائدة حول اللغة ووظائفها والنضال من أجل ترسيخ مفاهيم معينة.

والحقيقة، أن اللغة كانت وما زالت وستظل إحدى القوى، التي ساعدت على تطور الكائنات البشرية، وتطور قدرتهم على التفكير وتنظيم الحياة الاجتماعية، وتحقيق درجة التقدم التي عليها الإنسان حاليا، فهي تعتبر أعظم اكتشاف عرفه الإنسان على مر العصور، وهي أبرز ما يميزه عن بقية الكائنات، وكما يقول الفيلسوف الألماني ويلهم همبولت Wilhelm Von Humboldt (1767-1835): “إن الإنسان لسان”. فعلى مَنْ يريد دراسة الإنسان، أن يسعى إلى دراسة لغته، باعتبارها إحدى وسائل نشاطه العلمي والفكري والاجتماعي.

لذا تعتبر الأنثروبولوجيا اللغوية أهم أنواع الأنثروبولوجيا العامة. وسيظل تاريخ اللغة والأنثروبولوجيا اللغوية مجالا رحبا نتصفح من خلاله تاريخ الحضارات الإنسانية، فبفضل اللغة تكونت الجماعات والأمم المختلفة، وكانت أقوى الروابط بين أفراد تلك الجماعات ورمزا لحياتهم المشتركة، فالأنثروبولوجيا اللغوية لا تنظر إلى اللغة معزولة عن سياقها الاجتماعي، وإنما هناك علاقات متبادلة بين اللغة والثقافة والممارسات الاجتماعية المختلفة.

يبدو أن طبيعة بنية الإيديولوجيا المتفاعلة مع مجمل ممارسات الحياة اليومية، وعلى مختلف أشكال تلك البنية وتحولاتها بين كل من: اللغوي واللساني والثقافي، لا يمكن اختزالها في وصفات ميكانيكية جاهزة ومعدة سلفا؛ لأن هناك “منطقا منظوريا” يُشكّل طبيعة ذلك التداخل، ويتشظى بين أصغر وأدق مجهريات الحياة اليومية الواعية منها واللا واعية. ومثل تلك “الممارسات المنظورية” المنشطِرة في بنية الحياة اليومية والقيّمية لأنطولوجيا “الممارسة اللسانية والفعالية اللغوية”، يستحيل عليها أن تبقى رهينة المحبسين لعلاقة انعكاسية للبنية التحتية، في حين أن هذه العلاقة، هي في الواقع، علاقة ميتافورية (مجازية) أكثر مما هي حرفية أو حقيقية. ومن هنا، تتأتى ضرورة عملية فهم وتأويل العلاقة المتداخلة لمفهوم الإيديولوجيا مع كل من: تحليل الخطاب النقدي وفلسفة اللسانيات.

بالمقابل، تعرض إيديولوجيا اللغة كيف ترتبط معتقدات المتحدث اللغوية بالنظم الاجتماعية الثقافية الأوسع التي ينتمي إليها الفرد، عند التعرف عليها واستكشافها، لإيضاح كيف تتشكل معتقدات اللغة بهذه النظم، حيث تربط إيديولوجيا اللغة الافتراضات الصريحة والضمنية حول اللغة أو اللغات عموما بالتجربة الاجتماعية والاهتمامات السياسية والاقتصادية.

– المراجع المعتمدة:

– أبو بكر باقادر: إيديولوجيا اللغة، مجلة علامات، ج27، م7، كلية الآداب والعلوم الإنسانية – جامعة محمد الخامس، الرباط، ذو القعدة 1418 ه – مارس 1998 م.

– حنين إبراهيم معالي: البُعد الإيديولوجي في روايتي موسم الحوريات وأبناء الريح وأثره في البناء الفني، مجلة دراسات، العلوم الإنسانية والاجتماعية، الجامعة الأردنية، المجلد: 44، العدد: 1، 2017.

– حيدر علي سلامة: لغة الايديولوجيا وايديولوجيا اللغة… قراءة في تاريخ العلامة المقهور، مجلة سيميائيات، الجزائر، المجلد: 11، العدد: 1، 29/09/2015.

– محمد أحمد عنب: الانثروبولوجيا اللغوية – تطور اللغات وتواصل الحضارات، موقع التقدم العلمي، 7 يوليو 2021.  https://taqadom.aspdkw.com/

– هيئة تحرر الموقع: إيديولوجيا اللغة- Language ideology،  موقع بالعربية، 30 يونيو 2022. https://bilarabiya.net/26860.html

– ياسر سليمان: ” العربية في خطر “… أو الإيديولوجيا اللغوية، العربي الجديد، 12 أبريل 2015. https://www.alaraby.co.uk

– باربارا جونستون: إيديولوجيا اللغة، ترجمة: عمر أبو القاسم الككلي، موقع قناة 218، طرابلس (ليبيا)، 23/03/2018. https://www.218tv.net/%D8%A2%D9%8A%D8%AF%D9%8A%D9%88%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%BA%D8%A9/

* تعد الانثروبولوجيا اللغوية فرعا من فروع علم الانثروبولوجيا التي تدرس اللغة ودورها الكبير في الحياة الاجتماعية للأفراد والمجتمعات، وهي من العلوم المهمة التي تحاول توثيق وتسجيل اللغات المُهدّدة بالانقراض والاختفاء، وتدرس التأثير المتبادل بين اللغة ومختلف الأنشطة والممارسات الإنسانية الاجتماعية، أي تأثير اللغة ودورها في تشكيل المجتمع والثقافة، وكذلك تأثير الممارسات الاجتماعية في اللغة، وازدهارها وأفولها، وحياتها وموتها.

حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة قسم علم الاجتماع - كلية الآداب في جامعة ماردين - حلب سابقاً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock