ضمن الدلالات الحاكمة في كيفية استخدام كل من الاسم والفعل، أن “الاسم” يدل على الثبوت والاستقرار، بل والاستمرار أيضا؛ في حين أن “الفعل” يدل على الحدوث والتغير، بل والتجدد كذلك. ويكفي دلالة على ذلك، أن صفات الله سبحانه وتعالى كلها أسماء، أي إنها ثابتة ومستمرة لله عزَّ وجل، كما في قوله تعالى: “هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِۖ هُوَ ٱلرَّحۡمَٰنُ ٱلرَّحِيمُ ٭ هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡمَلِكُ ٱلۡقُدُّوسُ ٱلسَّلَٰمُ ٱلۡمُؤۡمِنُ ٱلۡمُهَيۡمِنُ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡجَبَّارُ ٱلۡمُتَكَبِّرُۚ سُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ٭ هُوَ ٱللَّهُ ٱلۡخَٰلِقُ ٱلۡبَارِئُ ٱلۡمُصَوِّرُۖ لَهُ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ يُسَبِّحُ لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ” [الحشر: 22-24].
ولنا أن نُلاحظ الدلالة القرءانية في ورود الاسم والفعل في آيات التنزيل الحكيم. ففي قوله سبحانه: “إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِۦۖ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِينَ” [الأنعام: 117]، يأتي الفعل “يَضِلُّ” للدلالة على عدم الثبات، وإمكانية التغير، فقد يهتدي. أما في قوله تعالى: “… فَوَكَزَهُۥ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيۡهِۖ قَالَ هَٰذَا مِنۡ عَمَلِ ٱلشَّيۡطَٰنِۖ إِنَّهُۥ عَدُوّٞ مُّضِلّٞ مُّبِينٞ” [القصص: 15]، يأتي الاسم “مُّضِلّٞ” للدلالة على ثبوت الصفة في “ٱلشَّيۡطَٰنِۖ”.
أيضا في قوله سبحانه: “وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمۡ وَأَنتَ فِيهِمۡۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمۡ وَهُمۡ يَسۡتَغۡفِرُونَ” [الأنفال: 33]، لم يرد الاسم “مستغفرون”، ولكن ورد الفعل “يَسۡتَغۡفِرُونَ” للدلالة على التغير في طبيعة الاستغفار وتوقيته، وطول مدته الزمنية، من مؤمن إلى آخر.
ولنا أن نتأمل هنا، في هذه الآية الكريمة، كيف ورد كل من الفعل “لِيُعَذِّبَهُمۡ”، والاسم “مُعَذِّبَهُمۡ” في السياق نفسه. إذ إن ورود الفعل “لِيُعَذِّبَهُمۡ” يأتي للدلالة على حدث موقوت بطبيعته وغير مستمر، وهو بقاء الرسول عليه الصلاة والسلام بينهم “وَأَنتَ فِيهِمۡۚ”؛ هذا بخلاف ورود الاسم “مُعَذِّبَهُمۡ”، الذي يدل على الثبات والاستمرار، في عدم تعرضهم للعذاب طالما أنهم “يَسۡتَغۡفِرُونَ”.
هذه الدلالة تأتي خلافا لتلك الناتجة عن ورود الاسم “مُهۡلِكَ”، في قوله تعالى: “وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهۡلِكَ ٱلۡقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبۡعَثَ فِيٓ أُمِّهَا رَسُولٗا يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِنَاۚ وَمَا كُنَّا مُهۡلِكِي ٱلۡقُرَىٰٓ إِلَّا وَأَهۡلُهَا ظَٰلِمُونَ” [القصص: 59]؛ للدلالة على أنه تبارك وتعالى يُهلكهم إذا كان “الظلم” صفة ثابتة فيهم “إِلَّا وَأَهۡلُهَا ظَٰلِمُونَ”، خاصة مع ورود أداة الاستثناء “إِلَّا”. وهذا من رحمة الله الواسعة.
ثم، لنا أن نُلاحظ، إضافة إلى ما سبق، أن ورود اسم الفاعل، إنما يأتي للدلالة على أن الأمر قد تقرر حدوثه لا محالة؛ وذلك مثل اسم الفاعل “جَاعِلٞ”، في قوله سبحانه: “وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ” [البقرة: 30]. إذ، هو لم يُصبح “خَلِيفَةٗۖ” بعد، ولكن جاء اسم الفاعل للدلالة على أن الأمر حاصل لا محالة.
أيضا، اسم الفاعل “خَالِقُ”، الذي جاء للدلالة على تحقق الأمر الإلهي لا محالة؛ وذلك في قوله تعالى: “إِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُۢ بَشَرٗا مِّن طِينٖ ٭ فَإِذَا سَوَّيۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ” [ص: 71].
يعني هذا- في ما يعنيه- أن ورود الصيغة الاسمية في التنزيل الحكيم، إنما تأتي للدلالة على ثبوت الحدث، أو الأمر، وتحققه، حتى لو كان هذا التحقق لم يحدث بعد وسيحدث في المستقبل. ولعل ذلك ما يتبدى بوضوح من خلال ورود “مُّغۡرَقُونَ”، في قوله سبحانه: “وَٱصۡنَعِ ٱلۡفُلۡكَ بِأَعۡيُنِنَا وَوَحۡيِنَا وَلَا تُخَٰطِبۡنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِنَّهُم مُّغۡرَقُونَ” [هود: 37]. وكذلك، من ورود “مُهۡلِكُوٓاْ”، في قوله تعالى: “وَلَمَّا جَآءَتۡ رُسُلُنَآ إِبۡرَٰهِيمَ بِٱلۡبُشۡرَىٰ قَالُوٓاْ إِنَّا مُهۡلِكُوٓاْ أَهۡلِ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةِۖ إِنَّ أَهۡلَهَا كَانُواْ ظَٰلِمِينَ” [العنكبوت: 31].
كذلك، في الإطار نفسه، بالنسبة إلى اسم الفاعل، ومثلما الحال مع اسم الفاعل “مُهۡلِكَ” [القصص: 59]، يأتي اسم الفاعل “مُخۡرِجُ”، في قوله سبحانه: “إِنَّ ٱللَّهَ فَالِقُ ٱلۡحَبِّ وَٱلنَّوَىٰۖ يُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ وَمُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتِ مِنَ ٱلۡحَيِّۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُۖ فَأَنَّىٰ تُؤۡفَكُونَ” [الأنعام: 95]. وهنا، ورد اسم الفاعل “فَالِقُ” أيضًا؛ الذي يأتي من الفعل “فلق” بمعنى “أبرز شيء وأظهر منه شيء آخر”. ثم، يأتي اسم الفاعل “مُخۡرِجُ”، في السياق نفسه مع الفعل “يُخۡرِجُ”.
وهنا، تتبدى أكثر من ملاحظة.. نذكر منها اثنتان:
الملاحظة الأولى، أن الفعل “يُخۡرِجُ” واسم الفاعل “مُخۡرِجُ”، كلاهما من الفعل الثلاثي “خرج”، الذي يؤشر إلى “نفاذ شيء عن شيء آخر”. وهذان الشيئان، الشيء والشيء الآخر، في سياق الآية الكريمة، هما “الحي” و”الميت”. ويأتي اسم الفاعل “مُخۡرِجُ”، من حيث الدلالة، خاصًا بـ”الله” سبحانه وتعالى؛ بمعنى أن إخراج الميت من الحي “مُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتِ مِنَ ٱلۡحَيِّۚ”، هو قانون موضوعي من “الله” دون تدخل الإنسان. وكما يؤكد المفكر السوري محمد شحرور -رحمه الله- يأتي هذا بخلاف الفعل “يُخۡرِجُ”، من حيث إن الله “أخرج الموت إخراجًا”؛ ومن ثم، فقد أعطى مجالا لتدخّل الإنسان. إذ، لولا أن الله تبارك وتعالى “أخرج الموت إخراجا”، لما كان هناك قضاء “تدخل” إنساني في القتل، والإهلاك. فـ”الإنسان”، يتدخل، كمثال، في إهلاك حبة القمح بالطحن.
والأكثر دلالة على أن “مُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتِ مِنَ ٱلۡحَيِّۚ”، هو قانون موضوعي من “الله” دون تدخل الإنسان، هو ختام الآية الكريمة “ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُۖ فَأَنَّىٰ تُؤۡفَكُونَ”. إذ “الإفك” هو “الارتداد”، ويأتي كدلالة على عدم استطاعة أي إنسان رد القانون الموضوعي؛ فالإنسان، يُمكن أن يتدخل لإسراع أو إبطاء عمل القانون، ولكنه لا يستطيع رده، أو أن يلغيه.
أضف إلى ذلك، أن ورود اسم الفاعل “مُخۡرِجُ” مع “ٱلۡمَيِّتِ”، وأن ورود الفعل “يُخۡرِجُ” مع “ٱلۡحَيِّۚ”؛ إنما يأتي في إطار دلالي يُؤشر إلى التناسب بين الثبات في اسم الفاعل، من حيث كونه “اسمًا” يتسم بالثبات، مع صفة الميت في السكون والثبوت؛ في حين يأتي الفعل مع الحي، لأن من صفات الحي الحركة والتجدد.
أما في قوله تعالى: “قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلۡمُلۡكِ تُؤۡتِي ٱلۡمُلۡكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلۡمُلۡكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُۖ بِيَدِكَ ٱلۡخَيۡرُۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ ٭ تُولِجُ ٱلَّيۡلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلَّيۡلِۖ وَتُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ وَتُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتَ مِنَ ٱلۡحَيِّۖ وَتَرۡزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيۡرِ حِسَابٖ” [آل عمران: 26-27]. لنا أن نُلاحظ اختلاف السياق في سورة “آل عمران”، عن السياق في سورة “الأنعام”. إذ، السياق، هنا، في “آل عمران”، كما يُشير المفكر العراقي فاضل السامرائي، يتسم بالتغيير والتجدد عموما. فـ”الله” سبحانه وتعالى يؤتي الملك من يشاء، أو ينزعه ممن يشاء، ويعز ويذل من يشاء، ويُغير الليل والنهار، وغير ذلك من الأمور الإلهية.
وبالتأكيد، يختلف هذا السياق عن سياق سورة “الأنعام”، الذي يأتي في إطار إظهار صفات الله تعالى وقدرته، وتفضله على خلقه؛ كا يتبدى في قوله عزَّ من قائل: “إِنَّ ٱللَّهَ فَالِقُ ٱلۡحَبِّ وَٱلنَّوَىٰۖ يُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ وَمُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتِ مِنَ ٱلۡحَيِّۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُۖ فَأَنَّىٰ تُؤۡفَكُونَ” [الأنعام: 95].
هذا، عن الملاحظة الأولى.
الملاحظة الأخرى، أن التعبير القرءاني الوارد في الآية الكريمة [آل عمران: 27]، بدلالة الفعل “يُخۡرِجُ”، نعني “يُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ”، قد ورد في مواضع أُخرى من آيات التنزيل الحكيم، ولكن في سياقات لها دلالات مختلفة.
فقد ورد في قوله عزَّ وجل: “يُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ وَيُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتَ مِنَ ٱلۡحَيِّ وَيُحۡيِ ٱلۡأَرۡضَ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۚ وَكَذَٰلِكَ تُخۡرَجُونَ” [الروم: 19]. وهنا، وردت الأفعال الإلهية “يُخۡرِجُ… وَيُخۡرِجُ… وَيُحۡيِ…”، وذلك في سياق الخطاب القرءاني عن “البعث”، حيث يبدأ السياق بقوله سبحانه: “وَيَوۡمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ يَوۡمَئِذٖ يَتَفَرَّقُونَ” [الروم: 14]. إذ، يتبدى بوضوح أن قضاء التدخل الإنساني يسقط نهائيا في “البعث”، أي “يَوۡمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ”.
وإضافة إلى سياق سورة “الروم”، فقد ورد التعبير القرءاني “يُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ”، في قوله سبحانه: “قُلۡ مَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ أَمَّن يَمۡلِكُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَمَن يُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ وَيُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتَ مِنَ ٱلۡحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۚ فَسَيَقُولُونَ ٱللَّهُۚ فَقُلۡ أَفَلَا تَتَّقُونَ” [يونس: 31].
وللحديث بقية.