رؤى

الرسم “القرءاني”.. ودلالة اسم الله “ٱلۡبَارِئ”

قلنا، ونُعيد، ونؤكد أن المصطلح، أي مصطلح، هو “أداة العقل المُجَرَدَة في الإشارة إلى المعنى”، بالشكل الذي يُعتبر فيه مثل الآلة تمامًا، لها مُجَرَدْ واحد هو اسمها المأخوذ من، والدال في الوقت نفسه على، عملها وإنتاجها؛ ومن ثم، يتوجب تعريفه، أو استكشاف هذا التعريف؛ لذا يمكن القول بأن المصطلح يأخذ أحد جانبين اثنين، أو كليهما معا: الجانب “المادي العضوي”، والجانب “المعنوي الوظيفي”، حيث لكل منهما التصور الخاص به في “الذهن الإنساني”.

بناء على ذلك، لنا أن نشير إلى ما أنهينا به حديثنا السابق، حول “الرسم القرءاني.. ودلالات كلمات الله الموحاة”؛ من أن “المؤشر الدلالي” للمفهوم، هو الذي يُحدد الفارق بين الجانب “المادي العضوي”،  والجانب “المعنوي الوظيفي” للمصطلح القرءاني.

وفي محاولتنا الاستمرار في الحديث عن إحدى أهم الظواهر الدلالية في الرسم القرءاني، يأتي حرف “الألف”، مؤشرا دلاليا، ليؤشر إلى اختلاف دلالة المصطلح باختلاف الرسم القرءاني لهذا الحرف؛ ففي حال التثبيت، يأتي الألف للدلالة على الجانب المادي العضوي؛ وأما في حال عدم تثبيت الحرف، يدل المصطلح على الجانب المعنوي الوظيفي.

وكنا قد تناولنا، في أحاديث سابقة، عددًا من الأمثلة على هذا الحرف؛ مثل محاولة تحديد الفارق الدلالي بين “طَآئِفٞ” و”طَٰٓئِفٞ”؛ وأيضًا، بين “شَاهِدٞ” و”شَٰهِدً”؛ ثم، بين “طَغَا” و”طَغَىٰ”.. وغيرها من المصطلحات القرءانية، التي تزخر بها آيات التنزيل الحكيم.

ويُمكن هنا أن نُضيف مثالًا آخر، لتبيان الفارق الدلالي بين “عِبَٰدُ” و”عِبَادٌ”؛ إذ إن الاختلاف بين تثبيت حرف الألف وعدم تثبيته، في كلٍ منهما، يأتي ليؤشر إلى الاختلاف الدلالي بينهما؛ وهو ما يتأكد عبر المقارنة بين عدم تثبيت حرف الألف في مصطلح “عِبَٰدُ ٱلرَّحۡمَٰنِ”، وتثبيته في المصطلح نفسه “َعِبَادُ ٱلرَّحۡمَٰنِ”.

إذ، يدل المصطلح في صورته الأولى “عِبَٰدُ ٱلرَّحۡمَٰنِ”، على الجانب الوظيفي، أو الجانب المعنوي الوظيفي للمصطلح القرءاني؛ كما في قوله سبحانه: “وَجَعَلُواْ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمۡ عِبَٰدُ ٱلرَّحۡمَٰنِ إِنَٰثًاۚ أَشَهِدُواْ خَلۡقَهُمۡۚ سَتُكۡتَبُ شَهَٰدَتُهُمۡ وَيُسۡـَٔلُونَ” [الزخرف: 19]. هذا، في حين يدل المصطلح في صورته الأُخرى “َعِبَادُ ٱلرَّحۡمَٰنِ”، على الجانب المادي العضوي للمصطلح القرءاني؛ كما في قوله تعالى: “وَعِبَادُ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلَّذِينَ يَمۡشُونَ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ هَوۡنٗا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ ٱلۡجَٰهِلُونَ قَالُواْ سَلَٰمٗا” [الفرقان: 63].

في هذا الإطار، لنا أن نقترب من واحد من “ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ” لله تبارك وتعالى، ورد في آية واحدة من آيات التنزيل الحكيم؛ نعني اسم الله “ٱلۡبَارِئُ”، في قوله سبحانه وتعالى: “هُوَ ٱللَّهُ ٱلۡخَٰلِقُ ٱلۡبَارِئُ ٱلۡمُصَوِّرُۖ لَهُ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ يُسَبِّحُ لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ” [الحشر: 24].

وقد ورد اسم الله عزَّ وجل “ٱلۡبَارِئُ”، في موضع واحد مُعرفًا بـ”ألف لام” التعريف، في هذه الآية الكريمة؛ إضافة إلى موضعين آخرين، ورد فيهما “بَارِئِكُمۡ”، في قوله تعالى: “وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِنَّكُمۡ ظَلَمۡتُمۡ أَنفُسَكُم بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلۡعِجۡلَ فَتُوبُوٓاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمۡ فَٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ عِندَ بَارِئِكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ” [البقرة: 54].

ولنا، هنا، أن نُلاحظ مسائل ثلاث:

الأولى، أن الآية الكريمة تؤكد أن هندسة الشيء، أي شيء، تعود إلى هذه “ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ” الثلاثة: “ٱلۡخَٰلِقُ ٱلۡبَارِئُ ٱلۡمُصَوِّرُۖ”، فما من شيء إلا ويرجع إلى هذه “الأسماء” الثلاثة في صورته واختصاصاته. إذ، يكفي أن نتأمل قوله سبحانه وتعالى: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلۡكَرِيمِ ٭ ٱلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّىٰكَ فَعَدَلَكَ ٭ فِيٓ أَيِّ صُورَةٖ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ” [الانفطار: 6-8]. أيضًا، قوله سبحانه: “هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمۡ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ كَيۡفَ يَشَآءُۚ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ” [آل عمران: 6]؛ وقوله تعالى: “ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَصَوَّرَكُمۡ فَأَحۡسَنَ صُوَرَكُمۡ” [غافر: 64].

الثانية، أن أصل “البرء” التقصي مما يكره مجاورته، أي إنه مأخوذ من تبرئة الشيء من الشيء وخلوصه منه، كبرء المريض من المرض، وبرء المَدِين من دينه. وسُمي “ٱلۡبَارِئُ” كذلك، لأنه ميز الأشكال بعضها من بعض بعد التقدير؛ كما في قوله عزَّ من قائل: “مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مِّن قَبۡلِ أَن نَّبۡرَأَهَآۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ” [الحديد: 22].

وهذا يعني، في ما يعنيه، أن “ٱلۡبَارِئ” مما خصّ الله عزَّ وجل بوصفه؛ أي إن “ٱلۡبَارِئ” هو اسم فاعل خاص بالله، غير مشترك مع غيره سبحانه، كما هو حال اسم الله تبارك وتعالى “ٱلۡخَٰلِقُ”؛ كما يرد في قوله سبحانه: “ثُمَّ أَنشَأۡنَٰهُ خَلۡقًا ءَاخَرَۚ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحۡسَنُ ٱلۡخَٰلِقِينَ” [المؤمنون: 14].. وهو ما سوف نتناوله في حديثنا القادم بإذنه تعالى.

وهنا، نُعيد التأكيد على أن “ٱلۡبَارِئ” من برأ، وبرأ الله الشيء أي خلقه صالحًا ومناسبًا للمهمة والغاية التي ابتغاها من خلقه له. أي إن الله عزَّ وجل قد خلق كل شيء في هذا الكون، ليؤدي وظيفة معينة، خُلِق من أجلها، ليؤديها ويقوم بإنجازها؛ وأن هذه الوظيفة تتناسب مع مادته العضوية التي خُلِق منها. يقول سبحانه وتعالى: “قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَٰمُوسَىٰ ٭ قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِيٓ أَعۡطَىٰ كُلَّ شَيۡءٍ خَلۡقَهُۥ ثُمَّ هَدَىٰ” [طه: 49-50]؛ ومن الواضح عبر الآية الكريمة، أن “أَعۡطَىٰ كُلَّ شَيۡءٍ خَلۡقَهُۥ” تؤشر إلى وتدل على كيان الشيء المادي العضوي الذي يتلاءم مع الوظيفة التي خُلِق لأجل أن يؤديها؛ وأن “ثُمَّ هَدَىٰ” تؤكد على أن المولى سبحانه وتعالى قد “أَعۡطَىٰ كُلَّ شَيۡءٍ” وظيفته التي “هَدَىٰ” الشيء إليها، تلك التي خُلِق من أجلها متلائمًا مع كيانه المادي العضوي.

الثالثة، أن ورود اسم الله “ٱلۡبَارِئ”، أو تحديدًا “بَارِئِكُمۡ” الذي ورد مرتين، في قوله تعالى: “فَتُوبُوٓاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمۡ فَٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ عِندَ بَارِئِكُمۡ” [البقرة: 54]؛ إنما يأتي، هنا، للإشارة إلى التمييز والإيجاد. إذ، يتضمن إشعارًا بأنهم بلغوا غاية “الجهالة”، حتى تركوا عبادة “خالقهم” إلى عبادة “ٱلۡعِجۡلَ”.

والواضح، من سياق الآية الكريمة، أن النبي موسى عليه السلام قال لقومه: “وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ إِنَّكُمۡ ظَلَمۡتُمۡ أَنفُسَكُم بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلۡعِجۡلَ فَتُوبُوٓاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمۡ فَٱقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ عِندَ بَارِئِكُمۡ فَتَابَ عَلَيۡكُمۡۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ” [البقرة: 54]؛ فإنه قال “إِلَىٰ بَارِئِكُمۡ”، ولم يقل: “إلى خالقكم”، لأن “ٱلسَّامِرِيُّ” أخرج لهم “عِجۡلٗا جَسَدٗا لَّهُۥ خُوَارٞ”، وكأنه خلقه ففتنوا به، فأرجعهم إلى “ٱلۡبَارِئ” سبحانه. وهو ما يتأكد عبر سياق الآيتين الكريمتين، في قوله سبحانه: “قَالُواْ مَآ أَخۡلَفۡنَا مَوۡعِدَكَ بِمَلۡكِنَا وَلَٰكِنَّا حُمِّلۡنَآ أَوۡزَارٗا مِّن زِينَةِ ٱلۡقَوۡمِ فَقَذَفۡنَٰهَا فَكَذَٰلِكَ أَلۡقَى ٱلسَّامِرِيُّ ٭ فَأَخۡرَجَ لَهُمۡ عِجۡلٗا جَسَدٗا لَّهُۥ خُوَارٞ فَقَالُواْ هَٰذَآ إِلَٰهُكُمۡ وَإِلَٰهُ مُوسَىٰ فَنَسِيَ” [طه: 87-88].

في هذا الإطار، لنا أن نتأمل كيف ورد اسم الله عزَّ وجل “ٱلۡبَارِئ” مع تثبيت حرف “الألف”، مؤشرا دلاليا على الاختصاص الإلهي بهذا الاسم؛ بمعنى أن “ٱلۡبَارِئ” هو اسم فاعل خاص بالله، غير مشترك مع غيره سبحانه، كما هو حال اسم الله تبارك وتعالى “ٱلۡخَٰلِقُ”.

كيف؟.. للحديث بقية.

 

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock