رؤى

قراءات إسلامية (7): الدولة.. وتنازع “الديني – السياسي”

لعل الأمر الجدير بالاهتمام والتأمل في آن، هو ملاحظة أن مقتل عثمان لم يكن إلا فاتحة للأزمة الحقيقية، في ما أُطلق عليها “الفتنة الكبرى” التي سوف تضع خليفة المسلمين وأحد أكبر رجال الإسلام وأبطاله، علي بن أبي طالب وجهًا لوجه،  مع معاوية بن أبي سفيان، أحد ولاة الأمصار المفتوحة.

وأن المرء لا يكاد يُصدق أن مثل هذه المواجهة كان يمكن أن تحدث في ذلك العهد القريب من النبوة، وأن واليًا مثل معاوية، يمكن أن يتجرأ على خليفة مثل علي، ويرفض مبايعته وينكر خلافته، ثم يخوض حربا شاملة ضده.. وأخيرا وأكثر من ذلك أن يغلبه.

وفي اعتقادنا.. أن هذه المواجهة ما كانت لتتم، لولا تلك الوضعية الجديدة التي وجد المسلمون أنفسهم إزاءها أسرى التناقض في ما بين حماية الدعوة وحماية الدنيا.. أو بالأحرى أسرى التناقض في ما بين الرسالة التي كانوا يحملونها ولا يريدون التخلي عنها، وبين المصالح المادية  الكبيرة التي لا يمكنهم تجاهلها.

بل لا نغالي إذ قلنا إن المواجهة تلك كانت قد تمت في إطار الالتباس العميق الحاصل حينذاك، في ما بين الأهداف والحوافز السياسية، والأهداف والحوافز الدينية.

“إسلام” المعنى والقوة

من جهة هذه الأخيرة (الدينية) وعبر إدراك مدى التجديد العميق، الذي أحدثه الإسلام في مفهوم الدين بالمقارنة مع ما كان سائدًا من قبل، في إطار الرسالة التوحيدية ذاتها.. تبدو فرادة الإسلام وأصالته في الجمع الجديد في ما بين المعنى أي نزعة الهداية الروحية والتبشير التي ميزت المسيحية  وإرادة القوة التي ميزت اليهودية في مرحلتها الأولى.

ولعل هذا الجمع المتمحور حول الدين كحركة اجتماعية سياسية، هو ما جعل الإسلام يتخذ شكل الثورة التاريخية الكبرى. ومن ثم –ومن خلال تأكيد الإسلام على أهمية الجهاد العملي والمادي لنشر الدعوة الروحية– نبع تفوقه كأي ثورة كبرى وتجاوزه لما سبقه، من جمعه بين الدعوة العالمية وتنظيم القدرة العلمية.

وهو ما يعني في ما يعنيه، أن الجهاد كأفضل تعبير عن روح الإسلام، كان مبدأ وممارسة تاريخية، أي كتضحية عملية ومادية في سبيل نشر الرسالة، مصدر تأسيس الدين كحقيقة واقعة، كما كان مصدر بناء الدولة في الإسلام؛ أو بالأصح كان مصدر بناء الهيكل الأساسي للدولة، ذلك الذي بدأت ملامحه تتبلور وتتضح عبر تطوير وسائل السياسة الدينية في عهد الخلافة الراشدة.

ولعل هذا ما يؤكد أن الدولة / الخلافة كانت وسيلة لغاية، لا غاية في ذاتها.

الفتنة وتنازع الاتجاهات

أما من جهة الأهداف والحوافز السياسية، وعبر تأمل كيف أن النبوة، وبحسب تعبير برهان غليون في كتابه “نقد السياسة.. الدولة والدين، 1993”  قد “حولت شعبًا كاملًا إلى مقاتلة، ورمته في لُجة الصراع العالمي، ووزعته ونشرته في أصقاع الأرض، بين شعوب غريبة، بعيدًا عن موطنه وبيوته وأهليه، وجعلت مصيره كله معلقًا بانتصاره الدائم”.

نقد السياسة الدولة والدين

بل، وعبر تأمل كيف كان منطق المصالح وتوزيع الغنائم والعطايا يؤكد نفسه، ويترسخ مع تزايد الانتصارات، وإرساء نظم جمع الخراج والعطاء معًا.. بداية من أيام عثمان بن عفان، تحديدًا، الذي كان أول من أدرك من الخلفاء تغيير الأوضاع الاجتماعية والسياسية في مسار اللحظة النبوية والروح الرسالية، وكان أول من أدرك الحاجة للدولة وللسياسة كسند ضروري للدين، فقال عبارته المشهورة “يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”.

نقول عبر تأمل هذا وذاك، يمكن الإشارة إلى إنه في اللحظة التي بدأت فيها الحاجة إلى السياسة والسياسي لتنظيم هذه المصالح الدنيوية ورعايتها، بدأ منطق الدعوة والتبشير والجهاد، لوجه الله، يفقد هيمنته المطلقة..

حينذاك، أي عند اللحظة، إياها، بدأ التنازع بين اتجاهين أولهما امتداد لعهد الكفاح الرسالي والجهاد المنزه عن الغرض، وترسيخ قواعد السياسة الدينية واستمرار الفتوحات العظيمة.. وثانيهما بداية انبعاث –على أسس جديدة– للقيم الدنيوية، لمفاهيم التمتع بالحياة، والتوزيع غير المتساوي، والاعتبارات والقيم العصبية للأرستقراطية العربية، بما هي نصاب سياسي، أي عصبية سلطة.

وفي ما يبدو فإن التنازع في ما بين هذين الاتجاهين، وإن كان قد أعلن عن نفسه منذ أيام الخليفة الراشدي عثمان بن عفان، إلا أنه وصل إلى الذروة في اللحظة المشار إليها، أي اللحظة التاريخية التي أطلق عليها الفتنة الكبرى.

إذ حينذاك وبتأثير من هذا التنازع، حدث نوع من الالتباس في ما بين الاتجاهين، أو قل في ما بين الأهداف والحوافز السياسية، والأهداف والحوافز الدينية.. بل لا نغالي إذا قلنا إن لحظة الفتنة الكبرى كانت أقصى درجات التعبير عن الالتباس والتنازع كليهما.

اختلاف الرؤى والمصالح

فإذا كانت الفتنة لا تعني شيئا آخر سوى انهيار القدرة على التمييز، وزوال أو اختلاط المعايير الواضحة لاتخاذ القرار وإمكانية الاختيار.. فإنها بهذا المعنى، كانت قد عبرت عن توافر الوضعية الجديدة التي وجد المسلمون أنفسهم إزاءها، أسرى التناقض ـكما أشرناـ في ما بين الرسالة التي كانوا يحملونها ولا يريدون التخلي عنها، والمصالح المادية الكبيرة  التي لا يمكنهم تجاهلها.

في هذا الإطار، كان لابد للمواجهة أن تتم في ما بين منطق حماية الدعوة ومنطق حماية الدنيا، من خلال ممثليهما.. أي: في ما بين علي بن أبي طالب، الذي كان رمزًا وقيادة عملية معًا، ملتزمًا مع جيل الصحابة الكبار بالمفهوم الأول للإسلام بمفهوم الدين كثورة دائمة ومستمرة.. ومعاوية بن أبي سفيان الذي كان عبر صراعه ذاته مع علي وبسببه، ممثلا لجيل المسلمين الجديد، والذي وضعته الفتوحات في قمة السلطة من جانب، وساعدت على أن يرى الأمور أيضا من وجهة نظر الحفاظ على المكتسبات المادية وتنظيم الحياة الاجتماعية، لجماعات وشعوب أصبحت تحت سيطرة المسلمين، ولم تكن هي نفسها إسلامية، من جانب آخر.

بعبارة أخرى، كان لابد للمواجهة أن تتم في ما بين وجهتي نظر مختلفتين تمامًا، في معالجة شئون المسلمين كجماعة وقوة مادية متحركة على مسرح التاريخ؛ ومن ثم وفي ما وراء ذلك، في فهم العلاقة بين السياستين الدينية والدنيوية أو في كيفية تحديد السياسة الإسلامية ذاتها، وأهدافها ووسائلها.

ومع الحسم الذي حدث في أمر هذه المواجهة (تغلّب معاوية).. حدث القطع في مسار الدولة/ الخلافة، ولتعلن نقيضتها الدولة /المُلك عن نفسها.. ومع الحسم أيضا تم إنجاز الفعل التاريخي المؤسس للدولة في الإسلام؛ التي سوف يتحول مع نشوئها مركز الثقل في الإسلام من العقيدة التي كانت كل شيء إلى الجماعة الإسلامية ذاتها، باعتبارها مجموعة من المصالح والقيم والتوازنات والحاجات والغايات المشخصة.

بيد أن الملاحظة التي لابد من التأكيد عليها، في هذا الشأن، هي تلك التي يوردها برهان غليون، في كتابه المشار إليه، من أن “ما حصل في الواقع ليس فصل الدولة عن الدين، ولا القضاء على الفكرة الدينية في السياسة. ولكن بالعكس تمامًا، إخضاع الدين والعقيدة لمنطق السياسة والدولة وتوظيفه فيها.. وهذا هو الفرق الجوهري مع الخلافة، كوارثة للنبوة، حيث كان كل شيء موظف في خدمة نشر العقيدة وإظهارها”.

هكذا تم التحول، إذن.. وهكذا تمت المُفارقة؛ مُفارقة القبول السريع للذهنية العربية / الإسلامية بالتحول في مسار الخلافة إلى المُلك والتصالح معه… يتبع.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock