ما بين إنتاج ليبيا النفطي، قبل انتفاضة 17 فبراير 2011، الذي وصل إلى مليون و600 ألف برميل، قبل سقوط نظام معمر القذافي؛ وبين ما يدور حوله هذا الإنتاج، الذي يقترب من حوالي مليون و200 ألف برميل، يوميًا؛ يبدو أن فارق 400 ألف برميل يوميًا، رغم كبر هذا الحجم، لا يعكس بدقة حجم الاضطرابات التي شهدها قطاع النفط الليبي، خلال السنوات الأخيرة.
بل، إن المُفارقة المثيرة، في مسألة النفط الليبي، هي الانقسام بين جغرافية الحقول والآبار، وبين جغرافية توزيع الإيرادات؛ فهذه الأخيرة، تتواجد في العاصمة الليبية طرابلس، حيث مقر حكومة “الوحدة الوطنية”، المنتهية الولاية، التي يترأسها عبد الحميد الدبيبة؛ في حين أن جغرافية الحقول والآبار النفطية الليبية، تقع معظمها في مناطق سيطرة الجيش الليبي، الذي يقوده المشير خليفة حفتر، والحكومة المُكلفة من قبل البرلمان.
وبين من يسيطرون على الحقول والآبار، ومن يتحكمون في الإدارة والتوزيع، انعكس الانقسام السياسي الذي تعيشه ليبيا منذ عام 2014.
رغم التقرير الذي أوردته المجلة الفرنسية “جون أفريك”، في 19 أبريل الماضي، وذكرت فيه أن ليبيا تصدرت الدول الأفريقية المنتجة للنفط، خلال شهر مارس 2024، بإنتاج نفطي بلغ 1.24 مليون برميل، متفوقة بذلك على نيجيريا التي تواجه صعوبات اقتصادية.
رغم ذلك تتصاعد مشكلات النفط في ليبيا، لتحمل أبعادا متعددة، ومتشابكة، من أهمها: تضرر إنتاج النفط بشكل مُستمر، بسبب معاناة هذا القطاع من وطأة الانقسام السياسي؛ فضلا عن الإغلاقات المتكررة لبعض حقول النفط الليبية، خاصة في إقليم فزان جنوب البلاد.
فمن جانب، يبدو تضرر إنتاج وتسويق النفط الليبي بشكل متكرر؛ حيث شهد قطاع النفط في ليبيا، خلال السنوات العشر الماضية، وفي العامين الأخيرين تحديدا، موجة من الإغلاقات المتكررة، طالت عددا من الحقول والموانئ النفطية في مناطق جنوب وشرق البلاد؛ بما تسبب عنه خسائر تجاوزت قيمتها 16 مليار دينار (حوالي 3.59 مليار دولار أمريكي)، بحسب المؤسسة الوطنية للنفط.
ويُعد حقل الشرارة، الذي أغلق من قبل محتجين، في أوائل يناير الماضي، وإعلان القوة القاهرة بشأنه، من أكبر مناطق إنتاج النفط في ليبيا، حيث يُنتج ما يزيد عن 300 ألف برميل يوميًا، وتديره المؤسسة الوطنية للنفط، في مشروع مشترك مع عدة شركات عالمية: “ريبسول” الإسبانية، و”توتال” الفرنسية، و”أو إم في” النمساوية، و”إكوينور” النرويجية.
وبالتالي، تؤدي الإغلاقات لحقول النفط، في بلد عضو في أوبك ومن أبرز منتجي النفط في أفريقيا، إلى خسائر كبرى للدولة الليبية، التي تعتمد في بنيتها الاقتصادية، بشكل رئيس، على عائدات تصدير النفط.
من جانب آخر، يأتي الانقسام السياسي عموما، وتنامي الخلافات بين جنوب البلاد وغربها بوجه خاص، ليؤثر سلبيا على القطاع النفطي في ليبيا؛ ففي ظل استمرار الصراع السياسي بين الفرقاء الليبيين، وما يبدو من فشل واضح للمجتمع الدولي والعربي، في ممارسة الضغوط لحلحة الأزمة الليبية وإجراء انتخابات تُنهي مُعاناة الليبيين؛ فإن إغلاقات حقول النفط في منطقة الجنوب الليبي، حدثت بموافقة غير مباشرة من السلطات النافذة هناك، ومنها الجيش الوطني الليبي، والحكومة المنبثقة عن البرلمان؛ فضلا عن الفعاليات الشعبية في المنطقة.
ويكفي هنا أن نُلاحظ السبب الرئيس في إغلاق حقل الشرارة النفطي، في بداية العام الجاري؛ فقد صرَّح الناطق باسم تجمع فزان أبو بكر شريعة، في تصريحات صحافية الاثنين 8 يناير الماضي، بأن “الإغلاق جاء بسبب عدم استجابة الحكومة لمطالب إقليم فزان بتوفير الخدمات والتنمية في الجنوب”؛ بما يعني تنامي الخلافات بين مناطق الجنوب الليبي والحكومة في طرابلس.
ضمن أهم التداعيات الناتجة عن مشكلات النفط الليبي، وأبعادها المختلفة، يبدو: التأثير على العملة الليبية وسعر الصرف الخاص بها، في مقابل العملات الأجنبية؛ إضافة إلى التأثير على أسواق النفط الدولية، بما يتسبب في الصراع الخارجي حول هذا النفط.
فمن جهة، التأثير على سعر صرف العملة الليبية؛ تحظى أزمة الإغلاقات المتكررة لبعض الحقول في الجنوب الليبي، على الاهتمام في شمال البلاد؛ وذلك من منظور مدى تأثير التراجع في الإنتاج النفطي، على الخدمات عمومًا، وعلى سعر صرف العملة الليبية أمام العملات الأجنبية بشكل خاص. إذ، يواجه الدينار الليبي صعوبات كبيرة للمحافظة على قيمته.
والملاحظ، أن مثل هذا التأثير على سعر صرف الدينار، وتراجع قيمته السوقية، ينعكس على كافة أنواع السلع والخدمات في ليبيا؛ من حيث إنها تعتمد بشكل كبير على الاستيراد في توفير السلع الاستراتيجية؛ فما ينتج بالداخل الليبي، لا يُغطي إلا قليلا من احتياجات السوق المحلية.
من جهة أخرى، يأتي التأثير على النفط في الأسواق الدولية؛ فالحجم الكبير الذي توفره حقول الجنوب الليبي، من الإمدادات النفطية، أدى إلى تجاوز تأثيره المستوى المحلي، ليمتد إلى الأسواق الدولية للنفط. وبحسب تقرير وكالة “بلومبيرغ” الأمريكية، في بداية العام الجاري، فإن “وقف الإمدادات في ليبيا قد يدعم الأسعار العالمية، لكن القلق الأكبر وعدم اليقين في الأسواق، لا يزال يتركز حول التوترات في الشرق الأوسط”.
أضف إلى ذلك، تزايد الصراع الإقليمي على ثروات ليبيا النفطية؛ إذ رغم ما تُعاني مناطق الجنوب الليبي من تهميش دائم ومستمر، فإن بها منابع النفط والغاز والماء؛ فضلا عن كونها “ثرية” بالمعادن النفيسة، وتُمثل بوابة للصحراء الكبرى الأفريقية ووسط أفريقيا عموما. ومن ثم، يتزايد التنافس الدولي على ثروات إقليم فزان، وموقعه الاستراتيجي؛ والذي يمكن أن يتحول إلى ساحة للصراع بين الروس والغرب، خاصة أنه يحتوي على عدد من الحقول النفطية المهمة؛ فضلا عن التنافس بين إيطاليا وفرنسا في هذا الإقليم، الذي يُعاني في الأصل من توترات أمنية مستمرة.
في هذا السياق، يمكن القول بأن ليبيا تمتلك كنزا من الاحتياطيات، يُقدَّر بأكثر من 48 مليار برميل من النفط، وحوالي 15 تريليون متر مكعب من الغاز؛ بما يضعها في صدارة دول القارة الأفريقية المنتجة للنفط، وقائمة أكبر 10 بلدان على مستوى العالم من حيث هذه الاحتياطيات، التي تمتلك نسبة 3 % منها.
ومن ثم، تأتي مشكلات النفط الليبي لتضع البلاد في مقدمة الدول، التي يُتنافس حول ثروة الاحتياطيات فيها؛ إذ يكفي أن نلاحظ أن إيطاليا وألمانيا وإسبانيا، تأتي في مقدمة الدول المستوردة للخام الليبي، حيث استحوذت على ما نسبته 71 % منه، في عام 2021، وفقا لبيانات البنك الدولي.
وبالتالي، تحت وطأة الانقسام السياسي وتداعياته على القطاع النفطي في ليبيا، لنا أن نتوقع كيف تكون المنافسة بين الدول الأوروبية على هذا الخام، في ظل انخفاض معدلات النفط الروسي بفعل العقوبات الأوروبية على روسيا، نتيجة الحرب في أوكرانيا.