رؤى

علاقة مفهوم “السُنَّة”.. بالوحي والنُطق القرآني

السنة: لغة، كلمة اشتقت من “سنَن”، ومعنى سَنَّ في الأصل: بينّ وسهّل وأجرى. لكن معنى “السُنَّة”، وهي اسم من المصدر، هو النهج والطريقة والسيرة والعادة. وقد جاء في أقوال الرسول، عليه الصلاة والسلام: “من سَنَّ في الإسلام سُنَّة حسنة، فعمل بها بعده، كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء. ومن سَنَّ في الإسلام سُنَّة سيئة، فعمل بها بعده، كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء” (رواه أحمد في مسنده: 4/362).

وجاء في “تعريفات” الجرجاني: “السُنَّة في اللغة الطريقة، مُرضية كانت أو غير مُرضية. وفي الشريعة الطريقة المسلوكة في الدين”. هذا بالإضافة إلى أن اللغويين فرقوا بين معنى “سَنَّ الأمر”: بيّنه، وبين معنى “سَنَّ الشيء”: سهله.

السُنَّة، إذن، وبكلمة هي “النهج”، والسُنَّة (المحمدية) هي نهج الرسول (ص) في تبيان أحكام الله عز وجل كما جاءت في كتابه العزيز؛ وهو (أي: محمد بن عبد الله، عليه الصلاة والسلام)، في نهجه هذا، كان، وما يزال، وسوف يظل، لنا فيه “أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ”.. وذلك كما في قوله جَلَّ جلاله: “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا” [الأحزاب: 21].

وإذا كنا قد تناولنا، منذ فترة، السُنَّة النبوية باعتبارها “نهج الإسلام العملي”؛ فإننا هنا نودُّ أن نُكمِل ما بدأناه على صفحات “أصوات أونلاين” من قبل بشأن علاقة السُنَّة بكل من النُطق والوحي. ولعل الدافع إلى ذلك، هو التساؤل الذي يتجه مباشرة إلى ما تعلَّق بالأذهان من أن “السُنَّة”، هي من “الوحي”، وذلك اعتمادًا على قوله عز وجل: “وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى” [النجم: 3 ـ 4]. رغم أن الاعتماد على هذه الآية الكريمة، يؤكد على “خطأ الاجتزاء” عند تناول بعض آيات الذكر الحكيم، أيًا تكن النية في ذلك.

ولننظر إلى قوله سبحانه وتعالى: “وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى” [النجم: 1 ـ 5].. هنا ينبغي أن نلاحظ، بل ندرك، أن كلمة “يَنْطِقُ” ليست من صيغ العموم ـ حتى نتمكن من القول أنها تشمل الكتاب والسنةـ ولكنها وردت مخصصة، وذلك من خلال إدخال “ما” الحرفية عليها.

فهو سبحانه وتعالى قال: “وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى”، ولم يقل: “ولا ينطق عن الهوى”. فـ”ما” الحرفية هنا، دخلت على الفعل المضارع فخصصته للحال. قامت بذلك بالرغم من انتفاء القرينة في هذا المقام. وبناءً عليه، فإن كلمة “يَنْطِقُ” قد جاءت مخصصة؛ وإن تخصيصها جاء للدلالة على أن: ما كان رسول الله، عليه الصلاة والسلام، يقدمه من آيات كريمة، شكلت بمجملها كتاب الله سبحانه وتعالى هو “وَحْيٌ يُوحَى”، وأضحى الضمير “هُوَ” عائدًا إلى ما كان “يقدمه”، أي “ينطقه”، أي “آيات الله”.

أضف إلى ذلك، أن ما ورد في الآية الكريمة هو فعل “النُطق” وليس فعل “القول”، وذلك لارتباط فعل “النُطق”: ليس فقط، بمعنى أبان وأوضح؛ ولكن أيضا بمعنى الأدلة؛ فكأن الله سبحانه وتعالى قد أراد تنبيه أذهاننا إلى الدليل في أن “ما ينطقـ”ـه الرسول (ص)، من آيات الله عزَّ وجل، إنما ينطقه ليس “عن الهوى”، بدليل أن ما علمه إياه “عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى”.

ولعل هذا يتبدى واضحًا إذا لاحظنا، من جانب، حرف العطف (الواو) التي وردت مرتين، ودلالات هذا الورود، في قوله سبحانه: “مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى”.. ولاحظنا، من جانب ثان، أن لا علاقة للضمير “المستتر” في الفعل “ينطق”، العائد إلى رسول الله (ص)، بالضمير “هُوَ”، العائد إلى الكتاب المُنَزَّل، في قوله تعالى: “إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى”.

ثم، لاحظنا، من جانب ثالث، الدورة الدلالية لفعل “النُطق” في النسق القرآني، كما في قوله سبحانه وتعالى: “وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ٭ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ” [الجاثية: 28-29]؛ وكما في قوله سبحانه: “وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ” [المؤمنون: 62]؛ وكما في قوله تعالى: “وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ٭ هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ ٭ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ” [المرسلات: 34-36]؛ وكما في قوله: “وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ٭ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ” [الذاريات: 22-23].

أما عند النظر في علاقة السُنَّة النبوية بالوحي، لنا أن نتأمل، ونتدبر، قوله سبحانه وتعالى: “قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ” [الأنبياء: 45].. إذ هنا فإن لفظ “الْوَحْيِ” ورد في الآية مُعرّفًا بالألف واللام، وهو الموضع الوحيد من بين “78” موضعًا وردت فيها كلمة “وَحْيِ” ومشتقاتها. فإذا ما أدركنا أن هذه الآيه “مكية”، يصبح تعريف “وَحْيِ” بالألف واللام للإشارة إلى القرآن الكريم وما احتواه، ليكون المعنى: “أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ”، بمعنى: “أنذركم بالقرآن”، مما يتعلق بمصيركم المشئوم.

وهذا هو ما يشير إليه، ليس فقط التسلسل الموضوعي للآية مع الآية التي تسبقها [الأنبياء: 44].. ولكن يشير إليه أيضا المواضع التي وردت بها كلمة “وَحْيِ” مرتبطة بـ”الإنذار”..

يقول سبحانه وتعالى: “قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ” [الأنعام: 19].. ويقول سبحانه: “وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ” [الشورى: 7].. ويقول تعالى: “قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ • أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ • مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ • إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ” [ص: 67 ـ 70].

بل إن مما له دلالة هنا في هذا الإطار، هو ورود فعل “الْوَحْيِ” (الوحي إلى الرسول الكريم)، مرتبطا بفعل “التلاوة” (تلاوة الرسول لهذا الوحي).. وذلك في قوله عز وجل: “كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ” [الرعد: 30].

ومن خلال هذه الآية، لا يكون عسيرًا أن نهتدي إلى أن المقصود بـ”الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ” هو آيات الله الكريمة التي تضمنها كتاب الله، خاصة إذا أدركنا أن فعل “التلاوة”، في اللسان العربي تشير إلى إعادة لفظ نص بحرفيته دون شرح ولا تعليق وبشكل متتال.. وهو ما يتبدى بوضوح من خلال قوله عز وجل: “يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ • هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ” [الجمعة: 1 ـ 2].. إضافة إلى الفصل بين “يَتْلُو عَلَيْهِمْ” و”يُعَلِّمُهُمْ”، فإن الهاء في “آياته” لا يمكن أن تعود إلى الرسول، ولكن إلى: “الله… الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ”.

ولننظر إلى قوله سبحانه وتعالى: “قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ” [الكهف: 110؛ فصلت: 6].. هنا، ينبغي أن نلاحظ أن هذه “الآية” تشير إلى أن النبي (ص)، وإن كان “بشرًا” مثل باقي البشر، إلا أنه يتميز عنهم بـ”الْوَحْيِ”..

فمن حيث كونه (ص) بشرًا، فقد قال سبحانه: “وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ” [الشورى: 51].. ومن حيث كونه (ص) نبيًا، فقد قال تعالى: “إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا” [النساء: 163].

فكأن المسألة هنا، تبدو في صورة: إن محمدًا -عليه الصلاة والسلام- هو بشرٌ، ولكنه يتميز عن باقي البشر بما أوحي إليه (الكتاب الكريم) من الله سبحانه وتعالى وبإذنه، تمامًا مثلما أوحى الله إلى من سبقه من النبيين.

ولكن، أين تتبدى إشكالية “الاجتزاء”.. إذن؟

وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock