رؤى

عتبة بن غزوان.. أي فضلٍ لم يكن له؟!

كثيرون منا لم يسمعوا بعُتْبَةَ وهو من هو!.. والحقيقة أن المصادر عن سيرته شحيحة رغم سبقه؛ إذ كان سابع سبعة لبوا نداء الهدى، وآمنوا بالرسالة المحمدية، وكان وقتها في الخامسة والثلاثين من عمره، ولازم الحبيب محمد مذ أسلم، واستجاب لأمره بالهجرة إلى الحبشة في العام الخامس للبعثة؛ لكنه ما لبث أن عاد إلى مكة، بعد انتشار الأخبار بدخول قريش في الإسلام.. وكان شوقه لرؤية الرسول هو باعثه على الإسراع بالعودة.

بُغت عتبة عند عودته باشتداد أذى المشركين للمسلمين، فلازم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن دخلَ في حلف بني نوفل بن عبد شمس، فهو ليس قرشيا في الأصل؛ بل من بني مازن الذين سكنوا الطائف.. ودخل عتبة مع النبي -صلى الله عليه وسلّم- الشِعْبَ في العام السابع للبعثة، بعد إقرار قريش مقاطعة بني هاشم وبني عبد المطلب وبني عبد مناف؛ ضمن محاولاتهم البائسة لرد المؤمنين بالرسالة عن دينهم.

ويقول عتبة عن ذلك “… ولقد رأَيْتُني سابعَ سبعةٍ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ما لنا طعامٌ إلَّا ورَقُ البِشَامِ وشَوْك القتادِ؛ حتَّى قرِحَتْ منَّا أشداقُنا. ولقدِ التقَطْتُ بُردةً فشقَقْتُها بَيْني وبَيْنَ سعدِ فائتَّزَرْتُ بنِصفِها وائتَّزَر سعدٌ بنِصفِها…”.

ثم كانت هجرته رضي الله عنه وأرضاه إلى المدينة؛ ليشارك في بناء دولة الإسلام بكل ما أوتي من قوة؛ وليشهد مع الرسول الخاتم، بدرا والمشاهد من بعدها.

كان عتبة كما وصف “طوالا جميلا” ذا هيبة، مشتهرا بالمهارة الشديدة في الرماية، فكان دائما من أمراء الغزو.. كما اختاره الرسول صلى الله عليه وسلم واحدا من ثمانية فرسان، بعثهم في سرية بقيادة عبدالله بن جحش الأسدي -رضى الله عنه- إلى وادي نخلة؛ لتقصّي أخبار قريش. بعد وفاة الرسول.. انتظم عتبة جنديا في جيش المسلمين الذي خاض ما عُرف بحروب الردة على عدة جبهات.. صال عتبة في تلك الحروب وجال وأثخن في أعداء الله، ولم تهدأ نفسه إلا بعودة الاستقرار إلى كامل ربوع جزيرة العرب- تحت راية الإسلام.

ثم رأى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، نشر دين الله خارج الجزيرة، وشاور أصحاب النبي في ذلك؛ فأقروه على ما رأى.  “وقد انضوى عتبة رضى الله عنه مع جند الحق تحت لواء سعد بن أبي وقاص رضى الله عنه، لقتال الفرس في منطقة المدائن وما حولها، وعندما اندحر الفرس، ودخل سعد الكوفة كتب الخليفة عمر إلى سعد أن يوجه عتبة بن غزوان رضى الله عنه الى البصرة”.

استجاب عتبة لأمر الخليفة؛ راجيا الله أن يفتح على يديه تلك البلاد؛ ليرفع فيها كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله. فخرج من الكوفة في ثلاثمئة وبضعة عشر رجلا، وانضم إليه قوم من الأعراب وأهل البوادي فدخل البصرة في خمسمائة أو يزيدون قليلا.

وقد أوصاه عمر بهذه الوصية الرائعة “اِنْطَلَقْ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ حَتَّى تَأْتُوا أَقْصَى مَمْلَكَةِ اَلْعَرَبِ وَأَدْنَى مَمْلَكَةِ اَلْعَجَمِ، فَسِرْ عَلَى بَرَكَةِ اَللَّهِ تَعَالَى وَيُمْنِه، اِتَّقِ اَللَّهَ مَا اِسْتَطَعْتَ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ تَأْتِي حَوْمَةَ اَلْعَدُوِّ، وَأَرْجُو أَنْ يُعِينَكَ اَللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ كَتَبْتُ إِلَى اَلْعَلَاءِ بنِ اَلْحَضْرَمِي أَنْ يَمُدَّكَ بُعْرَفْجَة بن هَرْثَمَة، وَهُوَ ذُو مُجَاهِدَةٍ لِلْعَدُوِّ وَذُو مُكَايَدَةٍ، فَشَاوِره، وَادِع إِلَى اَللَّهِ، فَمَنْ أَجَابَكَ فَاقْبَلْ مِنْهُ، وَمَنْ أَبَى فَالْجِزْيَةُ عَنْ يَد مَذَلَّةٍ وَصَغَار، وَإِلَّا فَالسَّيْفُ فِي غَيْرِ هَوَادَةٍ. وَاسْتَنْفَرَ مَنْ مَرَرْتَ بِهِ مِنْ اَلْعَرَبِ، وَحُثَّهُمْ عَلَى اَلْجِهَادِ، وَكَابِدْ اَلْعَدُوّ، وَاتَّقِ اَللَّهَ رَبَكَ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُنَازِعَكَ نَفْسُكَ إِلَى كِبْرٍ مِمَّا يُفْسِدُ عَلَيْكَ إِخْوَتَكَ، وَقَدْ صَحِبْتَ رَسُولَ اَللَّهِ – صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَعَززَّتَ بِهِ بَعْدَ اَلذّلَّةِ، وَقَوَيْت بِهِ بَعْدَ اَلضَّعْفِ، حَتَّى صِرْتَ أَمِيرًا مُسَلّطًا وَمَلِكَا مُطَاعًا، تَقُولُ فَيُسْمَعُ مِنْكَ، وَتَأْمُرُ فَيُطَاع أَمْرُكَ، فَيَا لَهَا نِعْمَةٌ! إِنْ لَم تَرْفَعْكَ فَوْقَ قَدْرِكَ وَتُبْطِرُكَ عَلَى مَنْ دُونكْ، وَاحْتَفِظْ مِنْ اَلنِّعْمَةِ اِحْتِفَاظَكَ مِنْ اَلْمَعْصِيَةِ، وَلَهِي أُخَوَفَهُمَا عِنْدِي عَلَيْكَ أَنْ تَسْتَدْرِجَكَ وَتَخْدَعَكَ، فَتَسْقُطُ سَقْطَةً تَصِيرُ بِهَا إِلَى جَهَنَّمَ، أُعِيذُكَ بِاَللَّهِ وَنَفْسِي مِنْ ذَلِكَ. إِنَّ اَلنَّاسَ أَسْرِعُوا إِلَى اَللَّهِ حِينَ رُفِعَتْ لَهُمْ اَلدُّنْيَا فَأُرَادُوهَا، فَأَرِدْ اَللَّهَ وَلَا تُرِد اَلدُّنْيَا، وَاتَّقِ مَصَارِعَ اَلظَّالِمِينَ”.

كانت المهمة الحربية التي كُلّف بها ابن غزوان – هي قطع طريق الإمدادات المتدفقة على الجيش الفارسي المتمركز في المدائن من الأهواز وفارس وميسان، كي يتسنى للجيش العربي بجبهة الكوفة مواصلة عملياته العسكرية لتحرير كامل أراضي العراق من الاحتلال الفارسي.

تقدم عتبة بالقوة حتى بلغ منبت القصب، وسمع نقيق الضفادع؛ فقال لمن معه: “إن أمير المؤمنين أمرني أن أنزل أقصى البر من أرض العرب وأدنى أرض الريف من أرض العجم؛ فهذا حيث واجب علينا طاعة إمامنا.. فنزل الخريبة”.

واستعد عتبة لدخول الأبُلّة، وكانت مرفأ للسفن القادمة من الهند والصين، وكان فيها خمسمائة من الأساورة الفرس. أراد ابن غزوان أن يلقي الرعب في قلوب أعداء الله؛ فقسّم جيشه الصغير إلى عدة فرق وجعل في المقدمة قوة قوامها مئتين وسبعين مقاتلا، وجعل النساء في المؤخرة وقد أمسكن بالقصب يثرن به التراب؛ ففزع الفرس  وتقاتلوا بالخطأ وحملوا ما خف وزنه وغلا ثمنه وعبروا إلى الفرات.. ودخل المسلمون الأبُلّة دون قتال وغنموا منها مغانم كثيرة.

فلما رأى عتبة جنوده وفي أيديهم الذهب والفضة- خشي عليهم الدنيا؛ فجمعهم وخطب فيهم قائلا: “أمَّا بعدُ فإنَّ الدُّنيا قد آذَنَتْ بصُرْمٍ وولَّتْ حذَّاءَ وإنَّما بقي منها صُبابةٌ كصُبابةِ الإناءِ صبَّها أحَدُكم وإنَّكم مُنتَقِلونَ منها إلى دارٍ لا زوالَ لها فانتَقِلوا ما بحضرتِكم ـ يُريدُ مِن الخيرِ ـ فلقد بلَغني أنَّ الحجَرَ يُلقى مِن شَفيرِ جهنَّمَ فما يبلُغُ لها قَعْرًا سبعينَ عامًا وايمُ اللهِ لَتُملَأنَّ أفعجِبْتُم ولقد ذُكِر لي أنَّ ما بَيْنَ مِصراعَيِ الجنَّةِ مسيرةُ أربعينَ عامًا ولَيأتِيَنَّ عليه يومٌ وهو كظيظٌ مِن الزِّحامِ… وَلَقَدْ رَأيْتُنَا بَعْدَ ذَلِكَ وَمَا مِنّا أيُّها الرَّهْطُ السَّبْعَة مَا منَّا أحَدٌ اليومَ حيٌّ إلَّا أصبَح أميرًا على مِصْرٍ مِن الأمصارِ وأعوذُ باللهِ مِن أنْ أكونَ عظيمًا في نفسي صغيرًا عندَ اللهِ وإنَّها لَمْ تكُنْ نبوَّةٌ إلَّا تناسَخَتْ حتَّى تكونَ عاقِبَتُها مُلكًا ستَبلُونَ الأمراءَ بعدَنا”. ثم تحرك عتبة بن غزوان بقواته نحو الأهواز فقد حوصرت قوات المسلمين في الأهواز بقيادة العلاء بن الحضرمي؛ فأرسل الخليفة عمر رضى الله عنه إلى عتبة أن ينجده، فأرسل عتبة قوة من اثني عشر ألف مقاتل فيهم من الأمراء الأبطال هاشم بن أبي وقاص، وعاصم بن عمرو التميمي، وعرفجة بن هرثمة البارقي وحذيفة بن محصن، والأحنف بن قيس.. وغيرهم وكان أميرهم أبو سبرة بن أبي رهم. فالتحم بقوات الفرس فهزمهم وأنقذ جيش العلاء بن الحضرمي وعاد بقواته إلى البصرة.

ثم خرج رضي الله عنه على رأس جيشه بعد وصول المدد من سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، إلى الأهواز وكان فيها الهرمزان، وكانت ما زالت تمثل نقطة انطلاق لهجمات الفرس على جيوش المسلمين.. ففتحت على يديه.

ثم عاد عتبة بن غزوان إلى الأبُلّة واختط البصرة، وهو أول من مصرها وعمرها، وأمر محجن بْن الأدرع، فخط مسجد البصرة الأعظم، وبناه بالقصب، ثُمَّ خرج حاجًا، وخلف مجاشع بْن مَسْعُود، وأمره أن يسير إِلَى الفرات، وأمر المغيرة بْن شُعْبَة أن يصلي بالناس، فلما وصل عتبة إِلَى عُمَر استعفاه عَنْ ولاية البصرة، فأبى أن يعفيه، فَقَالَ: “اللهم لا تردني إليها” فسقط عَنْ راحلته فمات سنة سبع عشرة، وهو منصرف من مكَّة إِلَى البصرة، بموضع يُقال لَهُ معدن بني سليم، ودُفن قريبا من البصرة.

رضي الله عن عتبة بن غزوان وأرضاه، فقد كان من القليلين الذين جمعوا المجد من أطرافه.. إذ كان فارسا مغوارا وقائدا محنكا وأميرا زاهدا.. وهو فوق كل ذلك من السابقين وممن شهد بدرا والمشاهد كلها مع الرسول.. فأي فضل لم تنله يا عُتْبَة؟!

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock