في كتابه “لا توجد تجارة حرة: تغيير المسار والتعامل مع الصين، يونيو 2023″، يؤكد الممثل التجاري للولايات المتحدة الأمريكية، روبرت لايتهايزر، في عهد الرئيس الأمريكي السابق، والمرشح الحالي لانتخابات الرئاسة الأمريكية، دونالد ترامب، بأن “الصين تظل أكبر تهديد جيوسياسي واجهته الولايات لمتحدة ربما منذ الثورة الأمريكية؛ ما يجعلها تتفوق على ألمانيا النازية والانفصاليين في الحرب الأهلية”.
ولا يكتفي لايتهايزر بذلك، بل يُضيف ما يُطلق عليه “الفصل الاستراتيجي”، الذي يتضمن عددًا من الإجراءات المقترحة، من جانبه، أهمها “فك الارتباط بين الولايات المتحدة والصبن، ورفع الرسوم الجمركية إلى مستويات عالية، ومنع شركات التواصل الاجتماعي الصينية، وإيقاف التعاون في المجالات التكنولوجية”.
والمثال الذي يطرحه لايتهايزر، كدليل على المقترح الذي يقدمه، هو “فرض ترامب رسومًا جمركية وصلت إلى 25% على ثلاثة أرباع كل ما تبيعه الصين للولايات المتحدة”؛ وذلك، مع نهاية الحرب التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم، تلك التي استمرت ثلاث سنوات. إلا أن لايتهايزر، يعود ويعترف بأن الولايات المتحدة لم تكن هي الفائز، ولا حتى الصين؛ فلقد عانى كل من الاقتصادين الأمريكي والصيني، رغم أن الصين تضررت أكثر من الولايات المتحدة، لأنها أكثر اعتمادا على التجارة.
هنا، يثور التساؤل المركزي حول الصراع بين الولايات المتحدة والصين، وهل هناك أسباب “غير مُعلنة” لهذا الصراع، الذي يتخذ من التجارة شكلا إعلاميا؟
بداية، يُمكن الإشارة إلى أن مُطالبة لايتهايزر برفع الرسوم الجمركية، يعتبر نوعا من التهديد الذي يمكن استخدامه من الولايات المتحدة تجاه الصين، لتحقيق الأغراض السياسية والاقتصادية، جرّاء المنافسة بينهما في أكثر من منطقة في العالم. هو مجرد “تهديد”، لأن الرسوم المرتفعة يُمكن أن تؤدي إلى عدم وجود واردات من الأصل؛ بمعنى أنه لن توجد إيرادات حمركية يُمكن تحصصيلها. إذ، يكفي أن نُلاحظ أن الدخل الإضافي الذي جمعته الولايات المتحدة من الرسوم التي فرضها ترامب (25%)، ذهب على دعم المزارعين الذين انهارت مبيعاتهم، بعد أن انتقمت الصين وفرضت تعريفاتها الخاصة.
وبالتالي، يُمكن التأكيد على أن ما يؤرق الإدارة الأمريكية حقًا، هو حجم الاقتصاد الصيني، الذي يُعد ثاني أكبر اقتصاد وأكبر المُصدرين، في الوقت نفسه، على مستوى العالم؛ إذ إنها -أي الصين- تُمثل واحدا من أهم التحديات أمام المحاولة الأميركية في الهيمنة على العالم. فهي قد استفادت من الانشغال الأميركي بانتصارات “وهمية” في أفغانستان والعراق وغيرهما، فانتهجت سياسة البناء الهادئ حتى أصبح اقتصادها منافسا حقيقيا لنظيره الأميركي، إلى الدرجة التي وصل فيها الفائض التجاري بينهما ـ الذي يُقارب 400 مليار دولار ـ إلى أن يكون في صالح الصين، بفارق ليس بالقليل.
ربما يأتي هذا ضمن دوافع الإدارة الأميركية في مواجهة ما يمكن تسميته “التحدي الصيني”، خاصة إذا لاحظنا تأكيد بايدن، بعد موافقة مجلس الشيوخ على المشروع الاستثماري الضخم، بأن: “الولايات المتحدة الأميركية تخوض منافسة لكسب القرن الحادي والعشرين”.
إلا أن هذا لا يكفي أن يكون سببًا في تصعيد الصراع الحاصل بين الطرفين، من حيث إن الفارق في الميزان التجاري لا يحتاج إلى التصعيد، بقدر ما يحتاج إلى سياسات أخرى أكثر هدوءًا وروِّية. ومن ثم، يطرح البعض أن السبب يكمن في “الدور” الصيني في تمويل “الدين” الأميركي، عن طريق شراء أذون الخزانة والسندات الأميركية.
صحيح أن كميات سندات وأذون الخزانة الأميركية الموجودة بحوزة الصين ـ ناهيك عن الدول الأوروبية، وفي مقدمتها ألمانيا ـ هائلة وصحيح أيضا أن الصين تقود الائتلاف الدولي المموِّل للدين الأميركي، هذا فضلا عن كونها اللاعب الرئيس لسياسة سد العجز لدى حكومة واشنطن.. لكن رغم هذا وذاك، يبقى من الصحيح، أنه كلما ازدادت ضغوط واشنطن على عصب الصراع التجاري مع الصين، كلما قلصت حكومة بكين من عمليات شراء أذون الخزانة الأميركية “من دون علم أحد”، ما عدا الاحتياطي الفيدرالي الأميركي ووزارة الخزانة الأميركية.
يعني هذا في ما يعنيه، أن سندات وأذون الخزانة الأميركية، هي “ورقة” تفاوضية في يد حكومة بكين، تساعدها على إنجاز الاتفاق التجاري المتعثر مع الولايات المتحدة، منذ عهد إدارة الرئيس الأميركي السابق ترامب، عبر المحاولة الصينية في السعي إلى تهدئة الأمور، ربما أكثر من الاندفاع إلى التصعيد الحاصل الآن.
ويعني هذا أيضا أن أسباب الصراع تبدو أكثر عُمقا، وأكبر تأثيرا، مما سبق.. إذ إضافة إلى تزايد القوة العسكرية الصينية خصوصا في بحر الصين الجنوبي، بل وتمددها وصولا إلى شواطئ البحر الأحمر، عبر القاعدة العسكرية الصينية في جيبوتي؛ يأتي القلق الأمريكي من المشروع الصيني الضخم المعروف بمبادرة “الحزام والطريق”.
بعبارة أخرى، إن مبادرة الحزام والطريق هي محور الارتكاز في الصراع الناشب، حاليا ومستقبلا، بين أميركا والصين؛ بل هي ما توضح لماذا يكون الصراع التجاري مع الصين، في الإطار الاقتصادي الأشمل، هو الأبرز والأهم لدى الإدارة الأميركية، أي إدارة أمريكية، ولماذا هو مُقدم حتى على الصراع العسكري مع روسيا.
إن نظرة فاحصة على مبادرة الحزام والطريق، توضح أنها تشمل مدّ خطوط سكك حديدية وشق طرق سريعة وبناء مرافئ في القارات الثلاث آسيا وأوروبا وأفريقيا، على نحو تُريد منه بكين ـ ولا ندري كيف يمكن التأكيد على أهمية هذه النقطة ـ أن يُغير وجه الاقتصاد العالمي؛ وإلا لماذا تطرح بكين مبادرة سوف تُكلفها “تريليون” دولار كـ”تقدير مبدئي”؛ أو لماذا هذا التصعيد الأميركي المتنامي للصراع الاقتصادي معها؟
ولنا أن نلاحظ أن الصين بإعلانها عن مبادرة “الحزام والطريق”، بدأت في إنشاء منظومة عالمية خاصة بها، عبر قيادتها لها، بمؤسسات دولية جديدة، وبديلة لكل المؤسسات الغربية، أو الأميركية بالأحرى، وعلى رأسها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. أضف إلى ذلك، التواجد العسكري الصيني المتزايد في مناطق جغرافية تختص بالمبادرة؛ وهو ما سوف يُنشئ إطارا جغراسيا وجغراستيا جديدا، في إطار محاولة بكين قيادة المنظومة الجديدة للاقتصاد الدولي.
من هنا، يأتي التصعيد الأميركي للصراع الاقتصادي معها، الذي يتضمن في إطاره الصراع مع عملاق الاتصالات الصيني “هواوي”؛ حيث إن هذه الأخيرة، تعتمد عليها كثير من الدول الأوروبية، في بناء شبكات الجيل الخامس للاتصالات، أكثر من الشركات الأوروبية والأميركية، لأنها تقدم بنية تحتية متقدمة، وحلول تقنية متميزة، وبأسعار “لا تُقارن” بأسعار الشركات الأخرى، بكل ما يعنيه ذلك من دلالات مستقبلية في ظل التحول الرقمي الراهن، وتغير مفهوم السيادة الوطنية للدول؛ وبكل ما يؤشر إليه، في الوقت نفسه، حول حروب الجيلين الخامس والسادس المحتملة.
ما نعاصره إذن هو تحول في النظام الدولي، نحو وضعية قطبية تختلف عن تلك التي عرفها العالم في القرن العشرين الفائت عمومًا، وخلال فترة العقدين السابقين تحديدا؛ تلك الفترة التي حاولت فيها الولايات المتحدة فرض هيمنتها على تفاعلات الساحة الدولية.