منذ اندلاع الصراع المُسلح في السودان، ركزت الصين على الدعوة إلى وقف القتال وحث الطرفين، الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، على الحوار والجلوس إلى طاولة المفاوضات؛ مع الحرص على تأمين حياة مواطنيها المُقيمين في السودان.
ومن الواضح أن الموقف الصيني من الصراع السوداني، يستند إلى مبدأ “الحياد الحذر”؛ الذي ينبع من رغبة صناع القرار الصينيين في الإبقاء على مسافة واحدة من أطراف الصراع، خاصة أن أبعاد نتائجه المؤثرة على المصالح الصينية في السودان، لم تتضح بعد. هذا، فضلا عن أن تداخل الأجندات الدولية والإقليمية يرفع من منسوب “حذر” المُقاربة الصينية المعتمدة، كمنهجية عامة، على تجنب تبني طرف على حساب الطرف الآخر.
يتضافر عدد من العوامل والمعطيات على زيادة الأهمية الاستراتيجية، لبلد عربي وأفريقي مثل السودان، وتعزيز مكانته في إطار الرؤية الاستراتيجية للصين، تجاه أفريقيا بشكل عام، ومنطقة القرن الأفريقي على وجه الخصوص.
ولعل أهم هذه العوامل.. يتمثل في ما يلي:
أولا: أهمية السودان بوصفها دولة ذات موارد استراتيجية؛ إذ تتزايد أهمية السودان في السياسة الصينية، بالنظر إلى كونه إحدى الدول المهمة المطلة على البحر الأحمر، عبر مسافة تصل إلى 600 كيلو متر؛ من حيث إن البحر الأحمر يعد واحدا من أهم الممرات المائية الاستراتيجية، في الرؤية الصينية نسبة إلى مبادرة “الحزام والطريق”؛ ومن خلاله أيضا تُعزز بكين حضورها في منطقة القرن الأفريقي، خاصة بعد تعزيز بكين وجودها العسكري في جيبوتي، منذ العام 2017.
وإضافة إلى أهمية الوضع الجغراسياسي للسودان في المنطقة، وقربه من أهداف ونقاط استراتيجية في محيطه الإقليمي، يتمتع السودان بامتلاكه الموارد الطبيعية والمعادن الاستراتيجية. فالطاقة تتوافر بجميع مكوناتها في هذا البلد، مثل النفط والغاز الطبيعي، واليورانيوم الذي يرتبط بالطاقة الأعظم، وهو ما يفسر هذا الصراع بين القوى الكبرى في “غرب السودان”، بعد مساعدة الغرب على انفصال جنوبه.
ثانيًا: أهمية السودان باعتبارها دولة واعدة استثماريًا؛ حيث تدرك بكين أهمية السودان، كونه أحد أبرز البلدان الأفريقية الواعدة استثماريًا، نظرًا لما يمتلكه من فرص جاذبة ومتنوعة في قطاعات عديدة، مثل النفط واليورانيوم والتنقيب عن الذهب، فضلا عن الزراعة والثروة الحيوانية والبنية التحتية. وبحسب أحمد عسكر، في دراسته حول: “التنافس الدولي الثلاثي على السودان، مارس 2021″، فقد كشف السودان، في مارس 2021، عن رغبة ثلاث شركات صينية في الاستثمار، في مجالات الزراعة والنفط والتعدين، بقيمة مليار دولار.
هذا، بالإضافة إلى تدافع بعض الشركات الصينية في لعب أدوار في موانئ السودان البحرية؛ منها كمثال، شركة الصين لهندسة الموانئ، التي عرضت تمويلا بقيمة 543 مليون دولار لتوسيع المرافق في ميناء سواكن السوداني؛ فيما تقوم شركة ميناء الصين، كمثال آخر، بتطوير ميناء لشحن الثروة الحيوانية في هايدوب جنوب ميناء بورتسودان.
ثالثا: أهمية السودان باعتباره ممرا لعبور نفط جنوب السودان؛ حيث يأتي الموقف الصيني المؤيد للثورة السودانية، في العام 2019، واعتباره الإطاحة بحكم عمر البشير شأنا داخليا، شاهدا على حرص بكين لحضورها في السودان، وتعزيز علاقاتها مع النخبة الحاكمة الجديدة، لحماية مصالحها الاقتصادية وشراكتها الاستراتيجية المعلنة مع الخرطوم، منذ العام 2015.
بل إن استقرار الأوضاع في السودان ومحاولة المساهمة في هذا الاستقرار- يمثل ضرورة بالنسبة إلى بكين، في ضوء تزايد أهمية السودان باعتباره ممرا لعبور نفط جنوب السودان، الذي يمثل 7 % تقريبا من إجمالي واردات الصين النفطية.
رابعًا: أهمية السودان بوصفه ثالث الشركاء التجاريين في أفريقيا؛ إذ، تعتبر الصين أكبر مستثمر أجنبي في السودان، كما أن استثماراتها هناك هي الأكبر على صعيد أفريقيا؛ فيما يحتل السودان المركز الثالث على صعيد القارة الأفريقية بالنسبة للصين، بعد أنغولا وجنوب أفريقيا. وإضافة إلى الإعلان، في 16 أكتوبر 2020، عن توقيع عشر اتفاقيات للتنقيب عن الذهب والمعادن وتطوير القطاع النفطي، بين السودان والشركات الصينية؛ فإن أهمية السودان تتضاعف في الرؤية الاستراتيجية الصينية، من منظور أن القروض التي تقدمها الصين إلى السودان، إنما تهدف إلى تمرير ما لديها من احتياطي من الدولار في شكل قروض بدون فوائد وبسخاء، وهو ما يساهم في تراكم ديون السودان؛ وفي الوقت نفسه، يضمن استمرار الشراكة التجارية مع الصين، فضلا عن انسياب النفط السوداني إليها لسنوات.
حافظت الصين على علاقات جيدة مع كل الحكومات السودانية، منذ الاستقلال، سواء كانت مدنية منتخبة أم عسكرية؛ وثمة عدد من المؤشرات على التقارب المستمر بين الجانبين.
في نهاية ديسمبر 2014، استخدمت الصين ومعها روسيا حق النقض (فيتو) على مشروع قرار من مجلس الأمن بإدانة السودان، لقيامه بطرد منظمات إغاثة إنسانية دولية، وهو ما يعد عمليًا إسقاطًا للمشروع.
وفي خضم أزمة دارفور، كانت الصين تقابل القرارات التي يصدرها مجلس الأمن الدولي حول الوضع هناك، إما بالموافقة أو بالامتناع عن التصويت؛ كما حدث في سبتمبر 2004، عندما أصدر المجلس قرارا (رقم 1564)، يدين قتل المدنيين في دارفور؛ حينذاك امتنعت الصين عن التصويت وهددت باستخدام حق النقض ضد أي تحرك آخر لفرض عقوبات على السودان.
ظلت العلاقات الصينية السودانية نموذجا يمكن أن يُحتذى، في نظر كثير من الدول الأفريقية، في حال الصمود أمام العقوبات الأمريكية؛ حتى بعد انفصال جنوب السودان عن السودان، في يوليو 2011، وتوقع تصدع العلاقات بين الجانبين، مع ذهاب حوالي 75% من النفط السوداني إلى دولة جنوب السودان؛ فقد كانت استمرارية العلاقات الصينية السودانية، فاتحة لعلاقات صينية أفريقية أخرى، كسبت منها الصين كثيرا، عبر انتشارها على ساحة القارة الأفريقية.
في هذا السياق، يمكن القول بأن أهداف الصين من علاقتها بالسودان، لم تقتصر على تأمين احتياجاتها النفطية فقط، بل دخلت مجالات التجارة والبني التحتية، إضافة إلى توطيد العلاقات السياسية والثقافية. وبالرغم مما بدا أنه تقليص مشاركتها الاقتصادية بعد الثورة، ثورة العام 2019، وإن كان واقعيا تقليصا نسبيا، إلا أنها وقفت في مجلس الأمن تنادي برفع العقوبات، وتؤكد أن هذه العقوبات حدّت بشدة من قدرة الحكومة السودانية على الحفاظ على الاستقرار وحماية المدنيين؛ مما ينبئ بعودة الصين لتحسين وصولها المستقبلي إلى الطاقة والمواد الخام.