في حياة كل مُبدع ، مفكرا كان أو أديبا أو عالما- عمل يُمثل حجر الزاوية أو بيت القصيد، أو هو قمة أعماله خلال رحلته الإبداعية، كأن نقول مثلا: جمال حمدان صاحب “شخصية مصر” أو الأستاذ العقاد “صاحب العبقريات” أو الطيب صالح صاحب “موسم الهجرة إلى الشمال” وهكذا يمكن إسباغ هذا الوصف عَلى عشرات الأدباء والمفكرين.
وهكذا أيضا يمكن وصف الدكتورة رضوى عاشور ورحلتها الإبداعية، فنقول بكل ثقة رضوى عاشور صاحبة “ثلاثية غرناطة”.
فهذه الأستاذة الأكاديمية الرائدة، احتلت مكانتها المُستحقة في عالم الإبداع العربي بتلك الرواية الرائعة، فقد كتبت قبلها وكتبت بعدها، ولكن تظل “ثلاثية غرناطة” هي واسطة العقد، ودُرة التاج، والتعبير الدقيق عنها كاتبة وباحثة في نفس الوقت.
فالقارئ لهذه الرواية البديعة يُدرك كم أفاد التأسيس العلمي الأكاديمي الصحيح والممتاز، لرضوى عاشور في توفير كل عناصر النجاح في البحث التاريخي، لجعل هذا العمل مُتكاملا من الناحية التاريخية، بقدر تكامله من الناحية الإبداعية، واللغة العربية الآسرة والجميلة، حيث درست تاريخ العرب في الأندلس، وأسماء المدن والأمراء والحكام والملوك والعادات والأسماء والتقاليد والأزياء والديانات والمذاهب والصناعات والمهن والحرف والطوائف وفن العمارة والموسيقى والرسم والنحت والنزعات الشخصية والثورات والانقلابات والمراسيم الملكية للأباطرة والملوك، والنصوص القرآنية والتراتيل الكنسية، والصراعات المذهبية، ومآلات الانهيارات العربية على أيدي أمراء الطوائف العرب، الذين ذهبت ريحهم فذهبت معهم الأندلس جنة العرب المفقودة!
“ثلاثية غرناطة” التي تضم هذا العالم الفسيح من الحقائق والوقائع والأحداث، تتوزع على ثلاثة أجزاء هي “غرناطة ومريمة والرحيل” وتبلغ صفحاتها أكثر من خمسمائة صفحة، وقد صدرت طبعتها الأخيرة عن دار الشروق المصرية، في العام ٢٠٠٣، فيما نشرت قبل ذلك في أكثر من دار نشر مصرية وعربية.
تبدأ الرواية في فصلها الأول من دكان أو محل أبو جعفر الوراق، وصبيّه نعيم ورؤيته لصبية رائعة الجمال، تأتي من المنحدر وهي عارية تماما، فيُسرع لستْرها وحماية جسدها ببرُدته الصوفية، فتذهب بعيدا ولا تعود، كأنها رؤيا عابرة لغرناطة والبيازين والأندلس الضائعة!
كانت “البيازين” هي المدينة التي يعيش فيها أبو جعفر وهي إحدى مدن “غرناطة” آخر ما سقط وضاع من الأندلس العربية في أيدي القشتاليين الإسبان من أصحاب المذهب الكاثوليكي.
فأحداث الرواية تبدأ سنة 1491، وهو العام الذي سقطت فيه غرناطة بإعلان المعاهدة المشئومة التي تنازل وفق نصوصها الجائرة والمُذلة أبو عبدالله محمد الصغير، آخر ملوك غرناطة لملكي قشتالة وأراجون، الملك فرناندو والملكة إيزابيلا.
هذا المشهد الحزين، والذي تأتي أحداث هذه الثلاثية ضمن ظلاله الكئيبة، وقف عنده المؤرخون وصفا له، بتلك الكلمات المؤلمة: “إنّ حكاية وقوف أبو عبدالله الصغير، آخر ملوك الطوائف في الأندلس؛ ليرنو للمرة الأخيرة إلى مملكته السابقة، وتقريع والدته له مشهورة جدا، فقد انثالت دموع الحسرة والألم، فما كان من والدته عائشة “الحرة” إلا أن قالت له: “ابكِ مثل النساء مُلْكا مُضاعا، لم تحافظ عليه مثل الرجال”!
رضوى عاشور وبلغتها الجميلة تُطلعنا على خفايا هذه الساعات الحزينة:
“… أبو القاسم بن عبدالملك ويوسف بن كماشة، الوزيران اللذان أوفدهما الملك للتفاوض، دخلا القاعة بصحبة دي ثافرا مندوب ملكي قشتالة وأراجون، وكان ثلاثتهم يحملون نص المعاهدة لقراءتها، بكى أبوعبدالله محمد الصغير، وقال: إنّ الله كتب عليه أن يكون شقيّا، وأن تضيع البلاد على يديه، انتحب الوزراء والقادة والعلماء ورددوا، لا حول ولا قوة إلاّ بالله، ولا راد لقضاء الله، اعترض موسى بن غسان، أحد الوزراء، على الاتفاق، وطالب الحاضرين برفضه، ولمّا لم يجد من يسانده غادر القصر غاضبا وأعتلى حصانه واختفى، كرر الحاضرون أنه لا مفر من قضاء الله، وأن شروط المعاهدة أفضل ما يمكن الحصول عليه … بكوا ووقعوا”!
خارج قاعة الحكم، كان الناس يتكلمون ويتسألون، بدهشة واستنكار، كيف يتعهد ملك بتسليم مُلكه؟ وكيف يقضى بتعهد قادة البلاد وفقهائها وكافة أهلها؛ بأن يسلموا طواعية قلاع الحمراء وحصنها وأبراجها، وأبواب غرناطة والبيازين وضواحيها لملوك قشتالة وأراجون!
في الحمّام الذي يملكه أبو منصور، حيث يغتسل الرجال، تبدأ الأحاديث بثرثرات لا معنى لها، ولكن توقيع معاهدة أبوعبدالله وملكي قشتالة وأراجون، بدا الحديث جادا، بل وحادا، فثمة مُعارض لخطوة الاستسلام هذه، وثمة مُؤيد “ولا يرى في الإمكان أحسن مما كان”!
“أنا مع أبي جعفر، وابن أبي غسان لم يمت كما يُشيع المغرضون، لن يفلت القشتاليون منا، نحن من أمامهم ورجال ابن أبي غسان من خلفهم، وأساطيل مصر والمغرب وبني عثمان تُطبق الحصار عليهم فلا يكون لهم من خلاص سوى الموت”.
صوت الأمل والرفض والمقاومة هذا، ولكن يوجد في الحديث فحيح الانكسار وقبح الاستسلام:
“غرناطة ساقطة لا محالة، وابن أبي غسان كان أحمق يريد لنا خوض قتال لا قبل لنا به، الحمد لله أنه مات وأراحنا واستراح”.
طوال صفحات هذه الرواية التأريخية البديعة تجري الوقائع على وَقْع هذه الاتفاقية، فصوت المقاومة لم يمت، وإن كان ذو صوت خافت أقرب إلى الهمس، فالعرب يحافظون على شعائر الصلاة وتعليم أولادهم الصغار لغة القرآن، ويأكلون أكلاتهم العربية وذبائحم الحلال، ولا يشربون الخمر ولا يقربون ما لم يشرعه دينهم، ولا يشب أطفالهم عن الطوق دون معرفة كل ما جاء به نبي الإسلام، محمد عليه الصلاة والسلام.
غير أن كل هذا في الخفاء، وفي السر، ولا يخرج عن أسوار البيوت، وجدران الحُجرات!
دون ذلك، فالقتل والحرق والسبي والطرد مصير كل من يخالف تعاليم وشريعة القشتاليين، فالمساجد تحولت إلى كنائس، والكتب العربية في كل فروع المعرفة لها موعد أسبوعي لحرقها في الميادين، ويُحرق معها صاحبها، ولا تجرى مراسم الحرق إلا في وجود أهل المدينة، من نساء ورجال وشيوخ وأطفال، سواء كانت المدينة هي “البيازين أو بيت الدمع أو العاصمة باليسيه، أو القرى الموزعة في الجبال”!
الكل تحت الرقابة، ولجان التحقيق، أو محاكم التفتيش تُطبق على الأنفاس وتزهق الأرواح على حين غِرة، فالعربي المسلم الذي يحمل اسم محمد أو جعفر أو خديجة أو غسان، أو المسلمة التي تحمل اسم مريم أو سعد أو سليمة أو عائشة، صار اسمه أو اسمها، اسما قشتاليا، وبات دينه مسيحيا كاثوليكيا، وصارت حفلات التنصير أسبوعية، وتعميد الأطفال في كل وقت، وتركهم دون ختان هو القانون، والخروج عليه، حرق الأب والأم، أما الطفل فتأخذه الكنيسة لتنشئته في كنفها!
أمام هذا القهر الذي لا حدود له، ثمة مقاومة عربية لهذا الظلم القارح، والضلال المُبِين، مقاومة مُسلحة أخذت من الجبال حصنا ومقاما، فقد هجر بعض الرجال والشباب، مدن القهر والمذلّة والخوف، واستوطنوا القمم العالية في جبال غرناطة والبيازين وقراها، يضربون جنود قشتالة وأراجون، ويتخفون في الكهوف والغابات، ويعيشون على القليل من المدد، وينتظرون يد العون الشحيحة الآتية من أعراب ما وراء البحار.
ليس لهم عون بعد الله، سوى دعوات أهل المدن في البيازين وبليسيه وعين الدمع وقرى الجعفرية وغيرها من قرى غرناطة، وقروشهم القليلة التي يودعونها في أيدي رُسلهم الهابطين من قمم الجبال.
أسرة أبو جعفر الوراق كانت من هذه الأسر والعائلات التي وجدت في هؤلاء المجاهدين أملا وحلما ورجاء، على عودة غرناطة إلى طابعها العربي المُتسامح الذي يتسع برحابة الإسلام لكل المذاهب والطوائف والأديان، دون تفرقة أو تمييز أو قهر أو تعصب أو إذلال.