رؤى

الرسم القرءاني.. ودلالة أحرف اللسان العربي

في رحلتنا مع “الرسم القرءاني”، نؤكد على أن هذا الاصطلاح هو لدينا أكثر صحة من عبارة “رسم القرءان”؛ لعديد من الأسباب، أهمها: إن الأخيرة هي عبارة تُشير إلى أن هناك من تطوّع وكتب القرءان بهذا الشكل؛ أما الأولى، فهي تعني أن هذا الرسم القرءاني الذي نُطالعه مع كل مرة نقرأ فيها المصحف، هو خاص بالقرءان الكريم، وخاص بآيات التنزيل الحكيم؛ بما يعني أن له من الدلالات التي لابد من محاولة الكشف عنها، عبر تدبر الآيات القرءانية من خلال لسانها، اللسان القرءاني، وسياقها ودلالة ألفاظها وتعبيراتها واصطلاحاتها.

ففي مُفتتح سورة يونس، يقول سبحانه وتعالى: “الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ٭ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرْ النَّاسَ وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا…” [يونس: 1-2]؛ لنا أن نُلاحظ ما يدل عليه سياق الآيتين الكريمتين، من أن “آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ”، هي ـ على الحقيقة ـ “وحي من الله”، بدلالة قوله تعالى: “أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ”؛ بما يعني الالتقاء الدلالي الواضح بين “أَوْحَيْنَا”، وبين “آيَاتُ الْكِتَابِ”، بما يحمله هذا الالتقاء الدلالي من تأكيد على كتابية “كتاب الوحي”.

وهناك أكثر من آية كريمة، تحمل دلالات تؤكد على ما ذهبنا إليه، من أن الكتاب هو كتاب مُنَزَّل من عند الله؛ ومن ثم، فهو “مكتوب” وليس “شفاهيًا”؛ كما يؤكد السياق الوارد في سورة الأنعام.. يقول سبحانه: “وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ…” [الأنعام: 92].

وهذه الآية الكريمة تتكامل سياقيًا مع الآية التي تسبقها، مُباشرة، في التأكيد على “كتابية الكتاب”؛ حيث يقول تعالى: “وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا…” [الأنعام: 91]. إذ، إن “تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ” تؤكد بشكل لا يقبل الشك على كتابية “الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى”؛ و في الوقت نفسه، كتابية آيات التنزيل الحكيم، من منظور أن مُفتتح الآية التالية مُباشرة “وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ” [الأنعام: 92].

هنا لنا أن نؤكد على ما نُطلق عليه “المؤشر الدلالي” للمفهوم، والذي يُحدد الفارق بين الجانب “المادي العضوي”، وبين الجانب “المعنوي الوظيفي” للمصطلح القرءاني. ولعل ذلك يتضح عبر اختلاف الرسم القرءاني للمصطلح الواحد باختلاف وروده في الآيات الكريمة؛ بما يعني اختلافًا دلاليًا تبعًا للسياق الوارد فيه المصطلح.

وكأحد الأمثلة على “المؤشر الدلالي” للمصطلح القرءاني، يأتي حرف “التاء”، مؤشرا دلاليا، إلى اختلاف دلالة المصطلح باختلاف الرسم القرءاني لهذا الحرف؛ ففي حال رسمها مبسوطة “التاء المفتوحة”، تُعطي مؤشرًا دلاليًا على الجانب الوظيفي المعنوي؛ في حين إذا رُسمت موثوقة “التاء المربوطة”، فإنها تُعطي مؤشرًا دلاليًا على الجانب المادي العضوي.

ويكفينا هنا، أن نحاول المُقارنة بين اثنتين من الآيات الكريمات، ورد فيهما لفظ “نعم”، مُضافًا إليه التاء المربوطة “ة” في إحداها، في حين ورد مُضافًا إليه التاء المبسوطة “ت” في الأخرى، هذا رغم ورود الألفاظ نفسها في الآيتين.

الآية الأولى، هي قوله سبحانه: “أَفَمَن يَخۡلُقُ كَمَن لَّا يَخۡلُقُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ٭ وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ” [النحل: 17-18]؛ وكما هو واضح، فقد وردت “نِعۡمَةَ ٱللَّهِ”، عبر إضافة التاء المربوطة إلى اللفظ “نعم”، التي ترد معه رسمًا قرءانيًا، كمؤشر دلالي على الجانب المادي العضوي لمصطلح “نِعۡمَةَ ٱللَّهِ”، بدليل السياق القرءاني للآية السابقة مباشرة [النحل: 17]، حيث إن التساؤل “أَفَمَن يَخۡلُقُ كَمَن لَّا يَخۡلُقُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ”، دال في هذا الإطار.

أما الآية الأُخرى، فهي قوله تعالى: “وَءَاتَىٰكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلۡتُمُوهُۚ وَإِن تَعُدُّواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ لَا تُحۡصُوهَآۗ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَظَلُومٞ كَفَّارٞ” [إبراهيم: 34]؛ وكما هو واضح، فقد وردت “نِعۡمَتَ ٱللَّهِ”، عبر إضافة التاء المفتوحة، إلى اللفظ “نعم”، التي ترد معه رسمًا قرءانيًا، مؤشر دلاليا على الجانب المعنوي الوظيفي لمصطلح “نِعۡمَتَ ٱللَّهِ”، بدليل مُفتتح الآية الكريمة “وَءَاتَىٰكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلۡتُمُوهُۚ” الذي يأتي دالًا في هذا الإطار.

أيضا لنا أن نؤكد على دلالات اختلاف رسم حرف آخر، فضلا عن حرف “التاء”؛ إنه حرف “الألف”، الذي يُعبر عن إحدى الظواهر في الرسم القرءاني؛ نعني مجئ اللفظ الواحد مرسوم بألف في موضع، وبغير ألف في موضع آخر. ومن المنطقي أن هذا الاختلاف في “المبنى”، يترتب عليه اختلاف في “المعنى”؛ وبالتالي، تختلف دلالات اللفظ بحسب اختلاف الرسم القرءاني لحرف الألف.

وكنا قد تناولنا، في أحاديث سابقة، عددا من الأمثلة على هذا الحرف؛ مثل محاولة تحديد الفارق الدلالي بين “طَآئِفٞ” و”طَٰٓئِفٞ”؛ وأيضًا، بين “شَاهِدٞ” و”شَٰهِدً”؛ ثم، بين “طَغَا” و”طَغَىٰ”.

ولنا أن نُشير إلى ما وصلنا إليه، بالنسبة إلى هذا المصطلح القرءاني، الأخير، من أن تثبيت حرف “الألف” في المصطلح “طَغَا”، يُضيف بُعد الارتفاع والعلو بالنسبة إلى تجاوز الماء الحد المادي العضوي؛ كما في قوله سبحانه: “إِنَّا لَمَّا طَغَا ٱلۡمَآءُ حَمَلۡنَٰكُمۡ فِي ٱلۡجَارِيَةِ” [الحاقة: 11]. أما في حال عدم تثبيت حرف “الألف”، واقتصار الرسم القرءاني على “الألف المقصورة” أو “اللينة”، في المصطلح “طَغَىٰ”، فهي تُضيف بُعد السقوط لحال من “طَغَىٰ”، حيث الجانب المعنوي الوظيفي لـ”الطغيان” المنهي عنه بفحوى الخطاب القرءاني؛ كما في قوله تعالى: “ٱذۡهَبۡ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ إِنَّهُۥ طَغَىٰ” [طه: 24]، وفي قوله عزَّ من قائل: “مَا زَاغَ ٱلۡبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ” [النجم: 17].

كذلك، وكمقدمة لحرف جديد، يأتي حرف الياء؛ الذي يتنوع بين زيادة الحرف في بعض المصطلحات القرءانية، بما لذلك من دلالة، وبين ثبوت الياء وحذفها من بعض آخر من المصطلحات؛ مؤشرا دلاليا من حيث اختلاف الرسم القرءاني له، وسوف نكتفي هنا بمثال وحيد على زيادة الحرف في مصطلح قرءاني، هو “وَرَآيِٕ”، الذي يختلف رسما قرءانيا عن المصطلح “وَرَآءِ”؛ بما يؤكد الاختلاف الدلالي بين المصطلحين.

بالنسبة لهذا المصطلح الأخير “وَرَآءِ”، فقد ورد في “اثني عشر” موضعًا في آيات التنزيل الحكيم؛ منها قوله سبحانه: “وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمۡ وَٱشۡتَرَوۡاْ بِهِۦ ثَمَنٗا قَلِيلٗاۖ فَبِئۡسَ مَا يَشۡتَرُونَ” [آل عمران: 187]؛ وأيضًا، في قوله تعالى: “وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۖ كِتَٰبَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡۚ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَٰلِكُمۡ أَن تَبۡتَغُواْ بِأَمۡوَٰلِكُم مُّحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَۚ” [النساء: 24].

ومن الواضح في الآيات الكريمة، أن ورود “وَرَآءِ” بالهمزة في آخر الكلمة، إنما يؤشر إلى أمور “حسية”، أي تحمل دلالات مادية عضوية؛ مثل “ٱلۡكِتَٰبَ” في الآية الكريمة الأولى، و”ٱلنِّسَآءِ” في الآية الثانية. وهي الدلالات نفسها التي تتبدى في التعبير القرءاني “مِن وَرَآءِ حِجَابٖۚ”؛ وذلك في قوله عزَّ من قائل: “وَإِذَا سَأَلۡتُمُوهُنَّ مَتَٰعٗا فَسۡـَٔلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٖۚ ذَٰلِكُمۡ أَطۡهَرُ لِقُلُوبِكُمۡ وَقُلُوبِهِنَّۚ وَمَا كَانَ لَكُمۡ أَن تُؤۡذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلَآ أَن تَنكِحُوٓاْ أَزۡوَٰجَهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦٓ أَبَدًاۚ” [الأحزاب: 53]. إذ، إن الـ”حِجَابٖۚ”، هنا، يحمل دلالة مادية من حيث كونه “حاجب الرؤية”.

أما عندما يكون الـ”حِجَابٖۚ” معنويًا، يأتي مصطلح “وَرَآيِٕ” رسمًا قرءانيًا بزيادة حرف “الياء”؛ كما في قوله عزَّ وجل: “وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلَّا وَحۡيًا أَوۡ مِن وَرَآيِٕ حِجَابٍ أَوۡ يُرۡسِلَ رَسُولٗا فَيُوحِيَ بِإِذۡنِهِۦ مَا يَشَآءُۚ إِنَّهُۥ عَلِيٌّ حَكِيمٞ” [الشورى: 51].

إذ، الحق سبحانه لا يُمكن أن يحجبه شيء، فهو خالق الأشياء. وبطبيعة الحال، الـ”حِجَابٖۚ”، هنا، ليس ماديًا؛ بل، معنوًيًا، لنفي الجهة والمكان عن الله تعالى.

وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock