إلى أين تتوجه الأزمة في ليبيا؟! هذا هو التساؤل الذي يتبادر إلى ذهن المتابع المهتم بما يحدث على الساحة الليبية عموما، والتطورات العسكرية والسياسية الحاصلة هناك بشكل خاص؛ بل وبكافة التفاعلات على هذه الساحة، سواء من جانب القوى الدولية، أو القوى الإقليمية ودول الجوار الجغرافي للدولة الليبية.
والواقع أن ثمة مؤشرات عديدة تدفع إلى عدم الإجابة على التساؤل المطروح بشكل إيجابي، خلال المستقبل المنظور على الأقل؛ إلا أن هناك مؤشرات أُخرى تُعبّر عن الأمل في أن تتجاوز ليبيا أزمتها. والواقع أيضا أن مثل هذا التناقض هو الإشكالية التي تنبني عليها الأزمة الليبية خلال فترة زمنية تزيد على ثلاثة عشر عاما، منذ انتفاضة 17 فبراير 2011، وسقوط العقيد القذافي ونظام حكمه.
إنها الأزمة التي تتفاعل، ليس بسبب عوامل داخلية فقط؛ ولكن إضافة إلى ذلك، تتعقد خيوطها وتتشابك كنتيجة لأسباب أخرى تتعلق بالتدخل الخارجي. رغم ذلك، تظل “الميليشيات المسلحة وفوضى السلاح”، هي النقطة المركزية في هذه الأزمة.
ففي ظل هشاشة النظام الأمني، وانقسام أجهزة الدولة، تعد قضية الميليشيات المسلحة وفوضى السلاح في عموم ليبيا- من المشكلات التي تعوق الحلول السلمية هناك. صحيح أنه لا توجد احصائيات رسمية عن حجم انتشار السلاح في هذا البلد، إلا أن الأمم المتحدة قد أحصت ما لا يقل عن 20 مليون قطعة سلاح، خلال السنوات القليلة الماضية.
وبالرغم من المبادرات الوطنية لتفكيك الميليشيات المسلحة، وملامح الخطة الدولية في هذا الخصوص.. إلا أن التساؤل الذي يطرح نفسه يدور حول الإمكانية؛ بمعنى: هل تستطيع حكومة الدبيبة، المنتهية الولاية، أو حكومة أسامة حماد، في شرق ليبيا، المُكلفة من قبل البرلمان، أن تنجح في تنفيذ المهمة؟
هذا التساؤل يكتسب أهمية، بملاحظة أن عدد الميليشيات “المجموعات المسلحة التي تعمل خارج إطار القانون” في المنطقة الغربية، وتحديدا في طرابلس ومصراتة، يصل إلى 50 ميليشيا، ويصل عدد أفرادها ما بين 120 – 200 ألف مقاتل. وهنا يكفي أن نشير إلى تقرير خبراء الأمم المتحدة المعني بليبيا، الذي نُشِر في مارس 2021، والذي أكد على أن الميليشيات المسلحة، خلال ولاية حكومة الوفاق برئاسة فائز السراج، اكتسبت شرعية غير مستحقة، وحصلت على مناصب حكومية نافذة.
وأشار التقرير، الذي ورد في 555 صفحة، بعض من هذه الميليشيات، مثل: كتيبة النواصي، والأمن المركزي، وعبد الغني الككلي الشهير بـ”غنيوة” الذي يقود جهاز ما يسمى “دعم الاستقرار”، كذلك قوة “الردع الخاصة” بقيادة عبد الرؤوف كارة؛ مؤكدا على أن نفاذ هذه الميليشيات المسلحة داخل مؤسسات الدولة لا يزال مستمرا حتى بعد رحيل حكومة السراج.
هكذا، تُمثل الميليشيات المسلحة التحدي الرئيس أمام أية محاولة لإرساء الاستقرار، والانتقال نحو الخروج الآمن من الأزمة التي تعصف بهذا البلد على امتداد السنوات الماضية؛ حيث اعتادت تلك الميليشيات استخدام السلاح كورقة ضغط، للحصول على امتيازات ومبالغ مالية طائلة، كما أن لها شبكات للمصالح في مؤسسات الدولة، وتلجأ إلى القوة للحصول عليها، وتتصارع على هذه الامتيازات.
والأهم، أن الحكومة المنتهية الولاية لم تقم بدورها المنوط بها في تدعيم المؤسسات الرسمية في البلاد، ومحاولة استعادتها وهيكلتها، كما كان يُفترض بها؛ ولكن على العكس، قامت بتقوية الميليشيات، من خلال دعمها وتقويتها، والاستقواء بها. لقد فشلت حكومة الدبيبة، في أهم الملفات التي كانت ملقاة على عاتقها، ملف تفكيك الميليشيات المسلحة وإعادة دمجها في المؤسسات الرسمية للدولة.
ورغم المحاولة من جانبها في الإعلان عن “المبادرة الوطنية” لتفكيك الميليشيات وتسريح أفرادها، ودمجهم في مؤسسات الدولة، وفي سوق العمل؛ إلا أن نسبة نجاح هذه المبادرة ضئيلة للغاية، بل تكاد أن تكون معدومة. إذ، يكفي أن نلاحظ الصراعات حتى بين الميليشيات الموالية للدبيبة، نفسه، التي يستقوي بها في إصراره على عدم تسليم السلطة.
لقد فشلت هذه الحكومة فشلا ذريعا، ليس فقط في تفكيك الميليشيات؛ ولكن -وهذا هو الأهم- في إنجاز الاستحقاق الانتخابي الذي كان مقررا.. وهو ما يؤكد من جديد على عدم إمكانية هذه الحكومة في المقدرة على تفكيك الميليشيات المسلحة، وتسريح عناصرها، كما طرحت في مبادرتها الوطنية.
خلاصة القول، أن الميليشيات المسلحة لا تزال، وسوف تظل، عائقا كبيرا أمام الانتقال، أو العبور الآمن للدولة الليبية نحو الاستقرار، والسيادة على الموارد التي تتمتع بها ليبيا؛ حيث إن الدبيبة ظل في موقعه فترة كافية من أجل أن يجد حلولًا ناجزة للملفات الشائكة في الأزمة الليبية، وعلى رأسها تفكيك الميليشيات المسلحة، ولكنه لم يوفق في ذلك.
هنا، يتبدى عدد من الصعوبات في نجاح عملية تفكيك الميليشيات المسلحة..
من بينها: عدم تسليم الدبيبة السلطة إلى الحكومة المكلفة من البرلمان الليبي؛ فبدلا من أن يلتزم الدبيبة بتكليف البرلمان لحكومة جديدة، إلا أنه تحدى قرار مجلس النواب، وتحصن بالميليشيات في العاصمة طرابلس، في إصرار على عدم تسليم السلطة إلا بعد إجراء الانتخابات!
ومن بينها أيضا عدم إمكانية التدخل الخارجي لتفكيك الميليشيات؛ إذ إن نزع السلاح وتفكيك الميليشيات يحتاجان إلى قرار من مجلس الأمن الدولي، قرار “واضح ومباشر” في هذا الشأن، وإقرار مباشر بتشكيل بعثة دولية أمنية تتولى تنفيذ هذا الأمر. إن الأمم المتحدة هي وحدها من يمتلك إدارة حفظ السلام، وهي الجهة الوحيدة في العالم التي تمتلك التوصيف الوظيفي والمسئولية القانونية، والخبرات والإمكانيات البشرية والمادية، لتنفيذ عملية نزع سلاح الميليشيات، وتفكيكها وتسريح أفرادها. ولكن، لأن الأزمة الليبية قد دخلت فعليا على خطوط التماس لاستراتيجيات الدول الكبرى الخاصة بهذه المنطقة من العالم، لذا تبدو إمكانية استصدار قرار من مجلس الأمن، غاية في الصعوبة.
ومن بينها كذلك فشل خريطة الطريق السياسية في إنهاء وضعية الانقسام؛ فهذه الخريطة التي جاء بناءً عليها عبد الحميد الدبيبة إلى رأس حكومة الوحدة الوطنية، أصبحت غير مطروحة تماما، بعد إقالة البرلمان لحكومته. وهكذا فإن المأزق السياسي الذي تتعرض له الساحة الليبية، ربما يدفع إلى إغراق البلاد مرة أخرى في صراع مفتوح بين الشرق والغرب الليبيين، في ظل التقدم البسيط الذي تحرزه المحاولات الدبلوماسية المتجددة.
غير أن هذا الاحتمال في ما يبدو غير وارد، من حيث إن الداعمين الأجانب للأطراف الليبية تنعدم لديهم الرغبة في هذا الاحتمال، على الأقل في المدى المنظور.