كنز مخبوء من كنوز صحابة رسول الله عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم، كان من أقرب الناس إلى قلب محمد، كيف لا وهو أخوه من الرضاع، وتِرْبُه الذي عاش معه سنوات الطفولة وأيام الشباب.. فكان لا يفارقه إلا نادرا. لقد كان عثمان صورة للنبي الأكرم في أخلاقه وسلوكه فترة ما قبل مهبط الوحي؛ حرّم على نفسه شُرب الخمر وكل ما يزري بالإنسان من فِعال، فكانت فطرته السليمة ونفسه النقية- هاديه ومرشده فيما يسلك من دروب الحياة.
إسلام ابن مظعون كان مبكرا.. وترتيبه بين الأوائل يأتي رابع عشر.. لكنه يحكي عن تلك الآية التي أخذت بمجامع قلبه وعقله، حتى صار الإسلام كل حياته ومحور اهتمامه.. يروي أنه مرّ ذات يوم برسول الله وهو جالس بفناء بيته بمكة وحيدا؛ فتبسّم له قائلا: “ألا تجلس” فجلس عثمان قبالته، وإذا بالنبي وهما يتحادثان يشخص ببصره إلى السماء، ثم نظر عن يمينه، يرى ما لا يراه عثمان.. وكانت أول مرة ينزل فيها الوحي على الرسول في حضرة ابن مظعون الذي تعجّب من حال النبي؛ لكنه ما إن سمع ما أوحى به الله تعالى لنبيه “إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ” (النحل:90) حتى استقر الإيمان في قلبه الذي امتلأ بمحبة الرسول الخاتم.
ماذا كان قبل ذلك؟ كان النقاش حول أمر الدعوة يدور كثيرا في مجالس قريش، وكان ابن مظعون وهو الشاعر العارف بلغة العرب يرنو إلى قول فصل لا يستطيع أحد من المعاندين له ردا؛ لذلك سعى بعد سماعه الآية مباشرة إلى مجلس صديقه الوليد بن المغيرة المخزومي سيد سادات قريش، ليتلو عليه ما سمع؛ فإذا بالوليد يقول: والله، إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر”. وكان معنى ذلك أن الوليد على وشك إعلان إسلامه، ما روّع قريشا وأطار عقلها؛ فترسل في إثره أبا جهل (ابن أخيه) ليرده بالحيلة والخديعة أسوأ مردٍ؛ فيتهم المغيرة محمدا بالسحر، وهو يعلم تمام العلم أنه بريء من كل اتهام يرمونه به، وأنه رسول الله وخاتم النبيين.
يلازم عثمان النبي بعد ذلك ملازمة الأخ والصديق؛ حتّى يأمره الرسول بالهجرة إلى الحبشة؛ فيهاجر وأهله في سبيل الله.. وهناك يرى انقطاع الرُّهبان عن الحياة الدنيا؛ فيرى في ذلك النجاة فيلتزم صلاة الليل، حتى يصبح صائما.. ومضى على هذا النهج حتى عاد إلى مكة؛ فعلم بحاله رسول الله عليه وآله أفضل صلاة وأتم التسليم فأرسل إليه فلما حضر خاطبه قائلا: “يا عثمان، إني لم أومر بالرهبانيّة، أرغبت عن سنتي؟! قال عثمان: لا يا رسول الله. فقال رسول الله: “إنّ من سنتي أن أصلي وأنام، وأصوم وأطعم، وأنكح وأطلق، فمن رغب عن سنتي فليس مني، يا عثمان إنّ لأهلك عليك حقًّا، ولعينيك عليك حقًّا”. وروي أن هذا اللقاء كان بالمدينة بعد الهجرة، بعد أن رأت بعض نساء النبي حال زوجة عثمان، وعلموا أمر انصرافه عنها إلى قيام الليل وصيام النهار.
بمجرد أن عاد عثمان من الحبشة عرف كذب الخبر الذي حُمل إليه بإسلام قريش؛ لم يكن الأمر سوى خُدعة لاستدراج المهاجرين والتنكيل بهم. دخل ابن مظعون في جوار صديقه الوليد بن المغيرة، لكنه ما لبث أن خلع جواره بعد أن رأى ما حاق بأصحابه من عذاب على يد سادة قريش.
في الكعبة جلس شاعر العرب لبيد بن ربيعة، وحوله شعراء مكة وما حولها ومن بينهم عثمان، وأنشد لبيد من شعره ما أخذ بالألباب حتى قال: ألا كل شيء ما خلا الله باطل، فقال عثمان: صدقت، فلما ألحق لبيد قوله هذا بقوله: وكل نعيم لا محالة زائل. قال ابن مظعون: كذبت، نعيم الجنة لا يزول.. فغضب لبيد وقال: “يا معشر قريش، والله ما كان يؤذي جليسكم، فمتى حدث هذا فيكم؟ فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه فارق ديننا.. فلا تجدنّ في نفسك من قوله.. فرد عليه عثمان بن مظعون حتى سري أمرهما. فقام اليه ذلك الرجل فلطم عينه فأسالها، والوليد بن المغيرة قريب، يرى ما يحدث لعثمان، فقال الوليد: “أما والله -يا ابن أخي- إن كانت عينك عمّا أصابها لغنيّة، لقد كانت في ذمة منيعة.. فقال عثمان: بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله.. وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس! فقال له الوليد: هلم يا بن أخي، إن شئت فعد إلى جواري. قال ابن مظعون: لا.. وانصرف راجيا أن تكون عينه، سابقته إلى جنة ربه.
فهل لهذا الراهب المثابر الزاهد المنافح عن دينه بعقله وذكائه وشعره من فضيلة أخرى تذكر؟ نعم وإنها لفضيلة لا يُغَضُ الطرف عنها؛ فلقد كان عثمان فارسا شهد بدرا وكان من أبطالها، ومما أطلق عليه من ألقاب لقب فارس الرسول، كما كان من أكرم الناس يعطي عطاء من لا يخشى الفقر كحبيبه وأخيه محمد، كيف لا وهو من نجباء المدرسة النورانية؟!
لم يتخذ عثمان في المدينة بيتا.. إذ مرض ومات في منزل أم العلاء التي شهدت له بالفضل والكرامة وأخبرت النبي بذلك. وفي وفاة هذا العظيم درس آخر يعلمنا إياه الحبيب محمد، وهو وارد بالتفصيل في هذا الحديث الذي رواه الإمام البخاري رحمه الله من حديث خارجة بن زيد بن ثابت رضي الله عنه: أن أمَّ العلاء ـ امرأة من نسائهم قد بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ـ أخبرته أن عثمان بن مظعون طار لهم في السُّكنى، حين اقترعت الأنصار على سُكنى المهاجرين، قالت أم العلاء: فاشتكى (مرض) عثمان عندنا فمرَّضْناه حتى تُوُفِّيَ، ثم جعلناه في أثوابه، فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: رحمة الله عليك أبا السائب (كنية عثمان بن مظعون)، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما يدريكِ أن الله أكرمه؟ قالت: قلت: لا أدري بأبي أنت وأمي يا رسول الله فمن؟ قال صلى الله عليه وسلم: أما هو فقد جاءه والله اليقين (الموت)، والله إني لأرجو له الخير، وما أدري والله وأنا رسول الله ما يُفعل بي، قالت: فوالله لا أزكي أحدا بعده، قالت: فأحزنني ذلك فنِمْتُ فأُرِيتُ لعثمان بن مظعون عينا تجري، فجئتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: ذاك عمله يجري له”.
وكان عثمان أول من دفن بالبقيع من المهاجرين، وقد وسده الرسول القبر بيده الشريفة، وبكاه النبي وترحم عليه كثيرا ورثاه بقوله: “رحمك الله يا أبا السائب.. خرجت من الدنيا وما أصبت منها، ولا أصابت منك”. ووضع على قبره حجرا كبيرا ليعرفه به.. وحين ماتت رقية رضي الله عنها، جعل قبرها إلى جوار قبر ابن مظعون.. وقال: ” الحقي بسلفنا الخيّر، عثمان بن مظعون”.