أثارت زيارة الرئيس التونسي قيس سعيد، إلى الصين نهاية مايو الماضي، والتي تُعد الأولى من نوعها لرئيس تونسي إلى بكين، منذ عام 1991، قدرا لا بأس به من التساؤلات حول توجه تونس ناحية الشرق، وتحديدا في اتجاه الصين؛ خاصة أن زيارة سعيد إلى بكين قد ترافق معها الإعلان عن توقيع اتفاق “شراكة استراتيجية” بين تونس والصين.
هذه الزيارة وإن كانت قد جاءت بمناسبة مُشاركة الرئيس التونسي في فعاليات المؤتمر العاشر لمنتدى التعاون العربي الصيني، إلا انها تأتي في وقت تمر فيه علاقات تونس مع شركائها التقليديين في الغرب، بمرحلة من الفتور والتراجع؛ بل وفي ظل أزمات اقتصادية وسياسية حادة تعيشها البلاد خلال السنوات الثلاث الأخيرة.
فما أهم التساؤلات التي تتمحور حول دوافع تونس في التوجه نحو الصين؟
لعل أهم الدوافع في التحرك التونسي، تلك التي تستند إلى عدد من الجوانب السياسية والاقتصادية المتشابكة؛ فمن جانب العوامل السياسية، فإن اتفاق الشراكة الاستراتيجية مع الصين، يكشف عن المحاولة التونسية في جذب الدعم الصيني، لتوجهات الرئيس سعيد السياسية، التي تتغيا الخروج من عباءة التبعية إلى أوروبا والغرب عموما؛ خاصة أن الصين تستهدف بناء علاقات دولية بالتضاد مع التوجه الغربي، الذي يُريد أن يفرض أجندة سياسية على شركائه، أي أن تدعم الصين بقوة الإجراءات التي اتخذتها تونس للإصلاح والحفاظ على سيادتها، منذ 25 يوليو 2021. هذا فضلا عن المُساندة الصينية في مقاومة أي محاولات من جانب قوى خارجية للتدخل في الشئون الداخلية لتونس.
في المُقابل.. فإن اتفاق الشراكة مع الصين، يؤكد على إعادة تونس بموجبه، الموافقة على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، رقم 2758، الذي اعتمدته في 25 أكتوبر 1971، بخصوص “مبدأ الصين الواحدة”؛ بما يُعبر عن الدعم التونسي لإعادة توحيد الصين، ورفض “التدخل في الشئون الداخلية للصين، في ما يتعلق بهونج كونج وشينجيانغ وغيرها من القضايا”.
ولعل ذلك يعني في ما يعنيه، أن اتفاق الشراكة الاستراتيجية يُعبر ويكشف عن نوع من المُقايضة السياسية، بين الدعم التونسي للصين، في مقابل الدعم الصيني لتونس، ليس سياسيا فقط، ولكن اقتصاديا أيضا.
من جانب العوامل الاقتصادية، فإن اتفاق الشراكة الاستراتيجية مع الصين، يكشف عن نوع من الضغط على الدول والمؤسسات الدولية المانحة، وعلى رأسها الدول الأوروبية وصندوق النقد الدولي، لأجل تخفيف الضغوط التي تمارسها على تونس؛ وبالتالي تعزيز الموقف التفاوضي التونسي مع صندوق النقد الدولي، بما يُساعدها في الحصول على قروض ومساعدات اقتصادية أوروبية؛ لأن البديل سيكون الصين.
وهذا هو ما حدث بالفعل؛ إذ أثارت زيارة سعيد إلى الصين ردَّة فعل الاتحاد الأوروبي، الذي أعرب عن القلق من التطور الحاصل في العلاقات التونسية مع بكين، بما يُمكن أن يؤثر على فعالية العلاقات بين تونس وأوروبا، على النحو الذي قد يخصم من النفوذ الأوروبي في تونس ومنطقة المغرب العربي. لذلك، سارع بنك الاستثمار الأوروبي، عقب انتهاء زيارة سعيد للصين، بتقديم 450 مليون يورو في صورة قروض ومساعدات لدعم الشركات الصغيرة والمتوسطة في تونس.
وكما يبدو، ورغم الخلافات المُثارة بين الجانبين، التونسي والأوروبي، في الوقت الحالي، فإن الزيارة قد ساعدت على تأكيد استمرار الدعم الأوروبي للاقتصاد التونسي؛ في محاولة لدفع تونس إلى عدم التخلي عن شركائها الأوروبيين.
هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن الرئيس سعيد يُريد الخروج من الأزمة الاقتصادية الحادة التي تعيشها تونس، وليس فقط الحصول على بعض المعونات. إذ إن جزءا أساسيا من هذه الأزمة، هو الرفض الغربي لتمويل عجز الموازنة التونسية. لذلك يسعى سعيد إلى إيجاد شريك اقتصادي قوي مثل الصين، لا يفرض عليه شروطا سياسية تتعلق بشكل النظام السياسي، أو قضايا الحريات.
والواقع، أن الصين تُعد الشريك المثالي، من خارج الكتلة الغربية، بالنسبة إلى تونس؛ فهي الشريك التجاري الرابع لتونس، بعد فرنسا وإيطاليا وألمانيا؛ ويبلغ حجم التبادل التجاري بين تونس والصين حوالي 6 مليارات دولار. وقد شهدت الزيارة توقيع اتفاقيات تعاون اقتصادي بين تونس وبكين، كما تعهدت الصين بتنفيذ مشروعات في قطاعات مختلفة، أهمها قطاعات الصحة والبنية التحتية والطاقة والنقل والبحث العلمي والسياحة، فضلا عن التكنولوجيا.
يكتسب التقارب التونسي مع الصين عددا من الدلالات السياسية المهمة، يأتي في مقدمتها السعي إلى تنويع الشركاء؛ إذ يعكس التوجه التونسي ناحية الشرق، الرغبة التونسية في تنويع شركائها، وخاصة ما يتعلق بتطوير العلاقات السياسية، التي تنعكس إيجابيا على العلاقات الاقتصادية؛ بما يمكن أن يُسهم في إنعاش الاقتصاد التونسي، والمساعدة في خروجه من أزمته.
أضف إلى ذلك، الرسائل التي ساهمت الزيارة في إيصالها إلى أطراف دولية وإقليمية؛ فقد بدا بوضوح أن الرئيس التونسي يرغب في إيصال عدة رسائل تُفيد باستقلالية عملية صنع واتخاذ القرارات السياسية، وخاصة ما يتعلق بالعلاقات التونسية مع شركائها الإقليميين والدوليين، وعدم الاقتصار التونسي على العلاقات مع الدول الغربية. وبالتالي، جاءت الزيارة لتؤكد على سعي الرئيس سعيد في محاولة الضغط على جيران تونس الأوروبيين، لتحسين شروط التفاوض حول الشراكات الاقتصادية بين الطرفين.
وفي ما يبدو.. فإن الهدف الرئيس من الزيارة، ليس إحداث قطيعة مع الشركاء الغربيين التقليديين، من الأوروبيين، بقدر ما كان محاولة للخروج من أحادية الشراكة مع الغرب، والبحث عن تنويع للشركاء الدوليين؛ فكان التوجه شرقا ناحية الصين، من حيث إن سياسات الرئيس التونسي تتعارض تماما مع النزعة الوصائية للغرب؛ وفي الوقت نفسه، الإدراك التونسي الواضح بأن هذا التضاد مع الغرب، هو المفتاح الحقيقي لتوليد المجال السياسي الذي يُساعد على التقارب الاقتصادي مع الصين.
هذا، فضلا عن أن الصين، على العكس من الدول الغربية، تلقى تأييدا داخليا في المجتمع التونسي؛ وبالتالي، يُساعد هذا في الاستفادة الشعبية من رمزية التوجه إلى الشرق الصيني، سيما وأن البلاد تمضي نحو استحقاق انتخابي، يُريد نظام الرئيس قيس سعيد تجديد شرعيته على المستوى الشعبي لخمس سنوات قادمة.