رؤى

تسخير “الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ”.. ودلالة نعمة “التسخير”

لماذا يُسخِّر الله سبحانه وتعالى للإنسان كثيرا من ظواهر هذا الكون؟ وما فائدة إخبار المولى سبحانه لنا بأن هذه الظواهر الطبيعية (الشمس والقمر والليل والنهار.. وغيرها)، هي مُسخَّرة للإنسان؟ وما مغزى هذا الأمر؟ والأهم.. لماذا استخدم التنزيل الحكيم تعبير “سخَّر” دون غيره من المصطلحات، الدالة على ضرورة النظر والتأمل.. وتدبر القرآن الكريم وآياته البينات؟

هنا، لابد من التأكيد على أن التساؤلات التي نطرحها، في سياق موضوعات التنزيل الحكيم عموما، وفي سياق الحديث المتواصل عن دلالة مصطلح التسخير، ومفهومه، إنما تأتي لإثارة الاستفهام حول هذه الموضوعات، التي تُمثّل إشكاليات فكرية كبرى. إذ، لنا أن نلاحظ، كيف أن القرآن الكريم يستخدم أسلوب التساؤلات، خاصة في موضوعات الإيمان الكبرى؛ وذلك عبر إثارة الاستفهام حول حكمة الخلق، وكنه الخالق، وإمكان البعث، وحتمية المصير الأخروي، وغيرها.

وبالتالي، يُصبح التساؤل حول مفهوم التسخير، وعلاقته بالأشياء والظواهر الكونية، تساؤلا طبيعيا يتطلب البحث له عن إجابة ذات دلالة، اعتمادا على آيات التنزيل الحكيم. إذ يُمكن اعتبار السؤال الفلسفي الذي يطرحه القرآن الكريم، وأيضا التساؤل الفلسفي الذي يمكن أن يطرحه الإنسان على آيات التنزيل الحكيم لأجل الإجابة – من أهم مصادر الإثبات والبرهنة العقلية على حقائق الوجود، التي تتطلب أدلة وحُججًا ظاهرة ومنطقية.

ولعل ذلك ما يُمكن أن يُفهم من قوله سبحانه وتعالى: “وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ” [لقمان: 25].. وأيضا، من قوله سبحانه: “وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ” [الزمر: 38].

ثم يأتي السؤال القرآني وإجابته، حول من: “خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ”، وحول من: “سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ”؛ وذلك في قوله تعالى: “وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّا يُؤْفَكُونَ” [العنكبوت: 61]. وهنا، لنا أن نلاحظ كيف ربطت الآية الكريمة بين “خَلَقَ” و”سَخَّرَ”، عبر حركة العطف بالواو.

وبالتالي، فإذا كان التسخير، هو: “جريان الأشياء والظواهر على عادة مضطردة، بطريقة معروفة أو تُمْكِن معرفتها”؛ لذا يمكن التأكيد على أن مفهوم التسخير -بوصفه مصطلحا قرآنيا- هو مفهوم رئيس يُحدد علاقة الإنسان بالأرض (الطبيعة)؛ وذلك من خلال ارتباط اللفظ في مواقع وروده، في آيات التنزيل الحكيم، ليس فقط بالظواهر الطبيعية في الكون؛ ولكن أيضا، بعلاقة الإنسان بهذه الظواهر.

وإذا كانت الأرض أو الطبيعة، هي مجال التدخل الإنساني وموضوع فعله، فإن في استعمال التنزيل الحكيم تعبير السُخرة، للدلالة على هذه العلاقة، ما يؤكد – بشكل قوي الدلالة-  على أن الإنسان هو القادر، والمسئول، عن تغيير واقعه وتحقيق أهدافه.

وفي البحث حول ملامح مفهوم التسخير في كتاب الله الكريم، وصلنا خلال الأحاديث السابقة، إلى أن تسخير الأشياء والظواهر الكونية يأتي لمصلحة الإنسان؛ وضمن هذه الظواهر الكونية، التي سَخَّرَها الله سبحانه وتعالى، يأتي تسخير “الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ”، الذي سنحاول تناوله هنا، في حديثنا هذا.

لم يرد لفظ “سَخَّرَ” في سياق واحد مع “الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ”؛ بل لم ترد “الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ” معطوفتان في سياق واحد، إلا في مرة واحدة في آيات التنزيل الحكيم؛ وذلك في قوله سبحانه وتعالى: “وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ٭ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ٭ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ” [الزخرف: 12-14].

وهنا لنا أن نلاحظ، بداية، الدعاء في الآية الكريمة “سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ”؛ وهو دعاء يأتي مع التوجيه الإلهي “وَتَقُولُوا”؛ وهو يتكرر مع ورود “الْفُلْكِ”، تحديدا، في آيات التنزيل الحكيم في مرات ثلاث.. الأولى، في هذه الآية الكريمة؛ والمرتان الأخريان: كما في قوله سبحانه: “فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ٭ وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ” [المؤمنون: 28-29].. وكما في قوله تعالى: “وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ” [هود: 41]؛ حيث يرتبط سياق هذه الآية الكريمة بـ”الْفُلْكِ”؛ إذ، يقول سبحانه وتعالى: “وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا… وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ…” [هود: 37-38].

وفي إطار الحديث عن التسخير، لنا أن نلاحظ، أيضا، أن تسخير “الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ”، في سياق الآية، لا يرتبط فقط بالدعاء “سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا”، ولا يتطلب وحسب تنزيه المولى عز وجل وتعظيمه، من خلال القول: “سُبْحانَ”؛ ولكن إضافة إلى هذا وذاك، يستوجب استحضار نعمته سبحانه وتعالى  “تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ”؛ حيث التذكر هو “استحضار شيء ما سبق”. بل إن سياق الآية الكريمة فيه تدليل على “نِعْمَةَ رَبِّكُمْ”، عبر التعبير القرآني الذي يتضمن لام التعليل وبيان السبب “وَجَعَلَ لَكُمْ… لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ”، حيث الاستواء هو العلو والظهور؛ هذا فضلا عن التعبير القرآني الآخر الذي يحتوي على أداة الشرط إِذَا، صاحبة الدلالة على الحتمية “إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا…”.

ثم يأتي مصطلح “مُقْرِنِينَ” أي مُطيقين، في قوله: “وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ”، الذي يُعد اعترافًا صريحًا بعدم المماثلة في القوة، بين الإنسان وبين الْفُلْكِ أو بينه وبين الْأَنْعَامِ، بما يستوجب تذكر “نِعْمَةَ رَبِّكُمْ”؛ إذ إن في أصل المصطلح قولان: أحدهما، أنه مأخوذ من الإقران، فيقال: أقرن إقرانا إذا أطاق، وأقرنت كذا إذا أطقته وحكمته؛ والآخر، من المقارنة، فيقال: قارنت بين الشيئين، أي: قرنت كذا بكذا إذا ربطته وجعلته قرينه، والقِران هو الحبل يقرن به شيئان.

وبالرغم من أن لفظ “سَخَّرَ” لم يرد في سياق واحد مع “الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ” بل لم ترد “الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ”، معطوفتان في سياق واحد، إلا في مرة واحدة في آيات التنزيل الحكيم؛ وذلك في سورة “الزخرف” [12-14]؛ إلا أن لفظ “سَخَّرَ” يرد في سياق واحد مع “الْفُلْكِ” بمفردها، في أربع من آيات التنزيل الحكيم: [النحل: 14، الجاثية: 12، إبراهيم 32، الحج: 65].. وهو ما يحتاج إلى قدر من التفصيل.

وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock