رؤى

الرسم القرءاني.. ودلالة مصطلحي “يَهۡدِيَنِ” و”يَهۡدِيَنِي”

مع استمرار رحلتنا مع الرسم القرءاني عموما، وحول “الرسم القرءاني.. ودلالة الياء في التنزيل الحكيم” بوجه خاص، وصلنا إلى أن حرف “الياء” بوصفه مؤشرا دلاليا من حيث اختلاف الرسم القرءاني له، يأتي ليتنوع بين زيادة الحرف في بعض المصطلحات القرءانية، بما لذلك من دلالة، وبين ثبوت الياء وحذفها من بعض آخر من المصطلحات، بما لذلك من دلالة أُخرى تختلف عن الأولى.

ففي حال عدم تثبيت حرف الياء، فإن ذلك يأتي مؤشرا دلاليا على الجانب المادي العضوي الذي يحمله المصطلح القرءاني؛ أما عندم تثبيته؛ فإنه يُعبّر يؤشر دلاليا على الجانب المعنوي الوظيفي للمصطلح القرءاني.

هذا الاختلاف الدلالي، الذي ينتج عن اختلاف الرسم القرءاني بين تثبيت الحرف وعدم تثبيته، يتضح في عدد من الأمثلة القرءانية، التي كنا قد أشرنا إليها من قبل.. كالمثال الذي يتبدى في الاختلاف بين “تَسۡـَٔلۡنِ”، في قوله سبحانه: “قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ فَلَا تَسۡـَٔلۡنِ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ إِنِّيٓ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ” [هود: 46].. وبين “تَسۡـَٔلۡنِي”، في قوله تعالى: “قَالَ فَإِنِ ٱتَّبَعۡتَنِي فَلَا تَسۡـَٔلۡنِي عَن شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ أُحۡدِثَ لَكَ مِنۡهُ ذِكۡرٗا” [الكهف: 70].

هنا، لنا أن نُلاحظ كيف أن “تَسۡـَٔلۡنِ” وردت في الآية الأولى [هود: 46]، دون تثبيت حرف الياء، ليؤشر دلاليا على الجانب المادي العضوي الذي يحمله المصطلح القرءاني “تَسۡـَٔلۡنِ”؛ بدليل السياق القرءاني الوارد في الآية الكريمة، الدال على الجوانب المادية العضوية “لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ… عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ”. أما في الآية الثانية [الكهف: 70]، لنا أن نتأمل كيف وردت “تَسۡـَٔلۡنِي” مع تثبيت حرف الياء، مؤشرا دلاليا على الجانب المعنوي الوظيفي للمصطلح القرءاني “تَسۡـَٔلۡنِي”؛ بدليل السياق القرءاني الوارد في الآية الكريمة، الدال على الجوانب المعنوية الوظيفية، خاصة مصطلح “ذِكۡرٗا” في ختام الآية “حَتَّىٰٓ أُحۡدِثَ لَكَ مِنۡهُ ذِكۡرٗا”.

أيضًا، فإن هذا الاختلاف الدلالي، الذي ينتج عن اختلاف الرسم القرءاني بين تثبيت الحرف وعدم تثبيته يتضح -إضافة إلى المثال السابق- في الاختلاف بين “أَخَّرۡتَنِ”، في قوله سبحانه: “وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ قَالَ ءَأَسۡجُدُ لِمَنۡ خَلَقۡتَ طِينٗا ٭ قَالَ أَرَءَيۡتَكَ هَٰذَا ٱلَّذِي كَرَّمۡتَ عَلَيَّ لَئِنۡ أَخَّرۡتَنِ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَأَحۡتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٗا” [الإسراء: 61-62].. وبين “أَخَّرۡتَنِيٓ”، في قوله تعالى: “وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقۡنَٰكُم مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنِيٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ” [المنافقون: 10].

ولأن مصطلحي “أَخَّرۡتَنِ” و”أَخَّرۡتَنِيٓ”، كما أوردنا في حديثنا السابق، يحملان معنى “طلب التأخير”؛ لذا، لنا أن نتأمل اختلاف دلالة التأخير عند حذف حرف الياء [الإسراء: 62]، عن دلالته في موضع التثبيت [المنافقون: 10]؛ فالتأخير في الموضع الأول هو “طلب تأخير” للبقاء المادي العضوي، بهدف مُحدد “لَأَحۡتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٗا”، رغم طول المسافة الزمنية “لَئِنۡ أَخَّرۡتَنِ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ”؛ وهو على غير حال التأخير في الموضع الثاني، من حيث كونه “طلب تأخير” للقيام بمسألة وظيفية “فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ”، مع قِصِر المسافة الزمنية “لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنِيٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖ”.  

إلا أن تلك الأمثلة ليست هي الوحيدة، التي يُمكن الاستشهاد بها ضمن آيات الذكر الحكيم؛ فهناك أمثلة مُتعددة على الاختلاف الدلالي للمصطلح القرءاني، بين ورود حرف الياء في المصطلح، وعدم وروده فيه؛ بما يُعبر عنه من اختلاف بين الدلالة المادية العضوية، وبين الدلالة الوظيفية.

هذا الاختلاف الدلالي نفسه، الذي ينتج عن اختلاف الرسم القرءاني بين تثبيت الحرف وعدم تثبيته، يتضح أيضا في الاختلاف بين “يَهۡدِيَنِ”، في قوله سبحانه: “وَلَا تَقُولَنَّ لِشَاْيۡءٍ إِنِّي فَاعِلٞ ذَٰلِكَ غَدًا ٭ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ وَٱذۡكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلۡ عَسَىٰٓ أَن يَهۡدِيَنِ رَبِّي لِأَقۡرَبَ مِنۡ هَٰذَا رَشَدٗا” [الكهف: 23-24].. وبين “يَهۡدِيَنِي”، في قوله تعالى: “وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلۡقَآءَ مَدۡيَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّيٓ أَن يَهۡدِيَنِي سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ” [القصص: 22].

ولأن مصطلحي “يَهۡدِيَنِ” و”يَهۡدِيَنِي”، يحملان معنى “طلب الهداية”؛ لذا، لنا أن نتأمل اختلاف دلالة الهداية في موضع عدم تثبيت حرف الياء [الكهف: 24]، عن دلالته في موضع التثبيت [القصص: 22]؛ فالطلب في الموضع الأول “وَقُلۡ عَسَىٰٓ أَن يَهۡدِيَنِ رَبِّي”، هو “طلب هداية” من المنظور المادي العضوي، بهدف مُحدد “لِأَقۡرَبَ مِنۡ هَٰذَا رَشَدٗا”؛ وهو، على غير حال الطلب في الموضع الثاني “قَالَ عَسَىٰ رَبِّيٓ أَن يَهۡدِيَنِي”، من حيث كونه “طلب هداية” للقيام بمسألة وظيفية ” سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ”.

وهنا، لنا أن نُلاحظ كيف أن مُفتتح الآية الكريمة الأولى [الكهف: 23]، تتضمن مصطلحات قرءانية ذات دلالات مادية عضوية “وَلَا تَقُولَنَّ لِشَاْيۡءٍ”، إضافة إلى مسألة “الفعل” المُصرح بها في الآية “فَاعِلٞ ذَٰلِكَ”، بما يؤكد الدلالة المادية العضوية للمصطلح  القرءاني “يَهۡدِيَنِ”. أما في الآية الثانية [القصص: 22]، لنا أن نُلاحظ كيف تضمن السياق القرءاني فيها مصطلحات ذات دلالات وظيفية واضحة “تَوَجَّهَ .. تِلۡقَآءَ مَدۡيَنَ”، بما يؤكد الدلالة الوظيفية للمصطلح القرءاني “يَهۡدِيَنِي”.

وهنا، لنا أن نؤكد على اختلافنا مع ما أورده عمر عبد الهادي عتيق، في دراسته “العلاقة بين رسم القرءان والدلالة”، والتي استشهد فيها بكل من الزمخشري في كتابه “الكشاف”، والمراكشي في كتابه “عنوان الدليل”.. إذ إنه قد عكس المسألة برمتها، فذكر أن الهداية في موضع حذف حرف الياء “يَهۡدِيَنِ”، هي هداية “معنوية”؛ في حين أن الهداية في موضع تثبيت الحرف “يَهۡدِيَنِي”، هي هداية حسية.

ومن الواضح، في نظرنا، أن هذا خطأ منهجي يعود، في ما يعود إليه، إلى الاعتماد على فكرة “صوت الحرف” وليس “رسم الحرف” رسما قرءانيا؛ فضلا عن إشكالية “الاجتزاء”، تلك التي تتبدى بوضوح في الاستناد إلى بعض ألفاظ الآية الكريمة، وليس إلى السياق القرءاني الوارد في الآية. فالاستناد إلى “وَلَا تَقُولَنَّ” فقط أدى إلى استنتاج أن الهداية معنوية، في حين أن السياق القرءاني يؤكد العكس من ذلك “وَلَا تَقُولَنَّ لِشَاْيۡءٍ إِنِّي فَاعِلٞ ذَٰلِكَ غَدًا”؛ إذ، لنا أن نتأمل دلالات “شيء” و”فاعل” المادية، فضلًا عن دلالة النهي “لَا تَقُولَنَّ” العضوية قياسًا إلى من يقول أو سوف يقول.

أضف إلى ذلك، أن عدم الانتباه إلى دلالات الحركة العطفية في الآية، ساهم هو الآخر في التوصل إلى نتائج معكوسة؛ إذ، حركات العطف “وَلَا تَقُولَنَّ لِشَاْيۡءٍ… وَٱذۡكُر رَّبَّكَ… وَقُلۡ…”، لها دلالات على الارتباط بين كل من المعطوف والمعطوف عليه، في السياق القرءاني الوارد في الآيتين المتتاليتين، بما يوجب التعامل مع الآيتين كـ”وحدة واحدة” وليس عبر اجتزاء السياق.

وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker