رؤى

إشكالية المصالح.. في الاهتمام التركي بالسودان

مثل غيرها من العواصم الإقليمية الفاعلة، حاولت أنقرة دعوة طرفي الصراع في السودان، الجيش السوداني والدعم السريع، إلى التهدئة والحوار بعيدا عن التصعيد العسكري. بل إن أنقرة تُردد دائما أنها تقف على مسافة واحدة من طرفي الصراع، وأن ما يجري هو شأن سوداني داخلي، وينبغي معالجته في هذا الإطار. لكن رغم ذلك، هناك الكثير من الدوافع التي تتسبب في قلق تركيا من استمرار الصراع الدامي في السودان.

لقد اختارت أنقرة السودان، بسبب موقعه ومساحته وفرص الاستثمار فيه، ليكون إحدى أهم ركائز سياستها الأفريقية؛ ومن ثم.. يُقلق تركيا ما يحدث في السودان من استمرار الصراع طوال هذه الفترة، التي تزيد على خمسة عشر شهرا، لأنه لا يُمكن فصله بسهولة عن الحراك التركي الجديد نحو القارة السمراء، فضلًا عن دول الشرق الأوسط.

اللافت، أن السودان يُمثل بالنسبة إلى تركيا أهمية جيوسياسية، فضلا عن أهميته الاقتصادية. وبالتالي، فإذا كانت تركيا قد حاولت استغلال العلاقة مع الرئيس السوداني السابق عمر البشير، لتنمية نفوذها في السودان؛ فهي قد صححت المسار، بعد عام 2019، من خلال الانفتاح على اللاعبين المؤثرين هناك، البرهان وحميدتي، عبر التواصل معهما لحماية العشرات من المشروعات وعقود الاستثمار التركية في المدن السودانية.

لذلك، يبدو أن ما يجري في السودان، من تصاعد في الصراع العسكري بينهما داخل البلاد، يولد أسبابا متعددة للتخوف التركي، نتيجة مصالحها، ولأنه يطول سياستها الإقليمية في القرن الأفريقي ومداخل البحر الأحمر الجنوبية.

وبالرغم من أن تركيا تردد أنها تقف على مسافة واحدة من طرفي الصراع السوداني، وأن ما يجري هو شأن داخلي؛ إلا أن هناك الكثير من العوامل التي تدفع أنقرة إلى القلق والتخوف من النتائج التي يمكن أن تترتب على هذه الصراع، خاصة ما يتعلق منها بالمصالح الاقتصادية.

فمن جانب، هناك تأثير الصراع على مصالح تركيا الاقتصادية؛ إذ من الواضح أن تركيا كانت قد عملت خلال السنوات الماضية، على ترسيخ حضورها في السودان، عبر التوقيع على عديد من مذكرات التفاهم معه؛ فإضافة إلى الاتفاقيات التي وقِّع عليها، أثناء زيارة عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة السوداني، إلى أنقرة، الخميس 12 أغسطس 2021، والتي وصلت إلى 6 اتفاقيات، وشملت مجالات متعددة؛ فقد وقِّع أيضا على مذكرات تفاهم، في بداية العام الماضي، من خلال توقيع مذكرات تفاهم لتعزيز التعاون في مجالات الزراعة والثروة الحيوانية.

ومن ثم، بقدر ما تحاول تركيا معرفة من الذي سيقود المشهد السوداني في المرحلة المقبلة؛ فهي -في الوقت نفسه- تريد أن تعرف مصير العشرات من المشروعات الاقتصادية التي بدأتها في هذا البلد؛ بل ومصير مئات ملايين الدولارات من الاستثمارات في المدن السودانية.

من جانب آخر، هناك التداعيات على الاستثمارات في الغذاء والطاقة؛ حيث يُمثل السودان أحد المصادر المهمة في منطقة القرن الأفريقي للطاقة التقليدية والطاقة البديلة ومجالا متميزا للاستثمار فيهما؛ لذا ومع تطلع تركيا إلى التحول في مصادر الطاقة البديلة، فإنها تسعى إلى تنامي نفوذها في السودان، كبوابة لها نحو شرق أفريقيا، بالتوازي مع تواجدها في ليبيا، وذلك عبر الاتفاقيات المُبرمة بين الجانبين في هذا الشأن.

أضف إلى ذلك، السعي التركي في إجراء بحوث حول البني التحتية للري، الخاصة بنهر النيل والمياه الجوفية، كمصادر لري مشروع “الهواد التنموي” الزراعي، بولاية نهر النيل، الذي منحته الإدارة السودانية، في يناير الماضي إلى أنقرة؛ وهو مشروع على مساحة مليونين وأربعمائة ألف فدان، بالتنسيق بين وزارة الزراعة والغابات التركية ووزارة الري والموارد المائية في السودان.

إضافة إلى تلك المصالح الاقتصادية، والاستثمارية، التركية في السودان؛ هناك أيضا، مصالح استراتيجية قياسا إلى موقع السودان، وأهميته على سواحل البحر الأحمر.

فمن جهة، هناك التخوف التركي من احتمال إلغاء اتفاقية “سواكن”؛ فقد لقي منح السودان تركيا حق إدارة جزيرة سواكن وتأهيلها، الكثير من الانتقادات في الداخل السوداني؛ ليس فقط باعتبارها تأتي ضمن حزمة من الاتفاقيات التي وقّع عليها بين أنقرة ونظام البشير، في ديسمبر 2017، ولكن أيضا من جانب ميراثها الجيواستراتيجي، حيث كانت مقرا لنظام الحكم العثماني.

وبعد سقوط البشير، ووفق المتغيرات الداخلية السودانية، عملت تركيا على ضرورة الانتقال السلمي للسلطة وتسوية الأزمة السودانية، خاصة بعد إعلان المجلس العسكري الانتقالي، الذي تأسس في 11 أبريل 2019، عن رفضه إقامة قاعدة عسكرية تركية في سواكن؛ وهو أمر من شأنه أن يُعيد خلط الأوراق التركية في السودان، وفي منطقة جواره الإقليمي، ويُزيد من إرتباك وجودها في واحد من أهم المجالات الاستراتيجية في القارة الأفريقية عموما.

من جهة أخرى، هناك القلق من اهتزاز النفوذ العسكري التركي؛ إذ سعت تركيا منذ فترة لفرض نفوذها العسكري على سواحل البحر الأحمر، وامتلاك بعض القواعد العسكرية في منطقة القرن الأفريقي؛ وهو ما تحقق لها بافتتاح القاعدة العسكرية بالصومال، في عام 2017. وقد كانت أنقرة تستهدف أن يمتد نفوذها العسكري إلى السودان، عبر نقل إدارة جزيرة سواكن إليها، في محاولة لتمديد تواجدها العسكري على سواحل البحر الأحمر، عند المداخل الجنوبية له.

إلا أن إعلان المجلس العسكري السوداني رفضه لإقامة قاعدة عسكرية تركية في سواكن، ثم تصاعد الصراع العسكري، لابد أن يدفع تركيا إلى القلق من تراجع نفوذها العسكري في السودان، وربما في منطقة القرن الأفريقي، في حال امتداد تداعيات الصراع في السودان، وارتداداته السلبية، في المنطقة.

في هذا السياق، يُمكن القول بأن ما يجري في السودان، من تصاعد في الصراع العسكري، يدفع تركيا إلى “الحذر الجيوسياسي” لأنه يطول سياسها الإقليمية؛ ولأنه أيضا لا يمكن فصله بسهولة عن الحراك التركي نحو الشرق الأوسط، ومنطقة القرن الأفريقي، خاصة بعد أن ارتفعت أرقام البعثات الدبلوماسية بين تركيا وأفريقيا بنسبة 7 أضعاف في العقد الأخير.

وبالتالي، فإذا كانت تركيا قد خسرت رهاناتها على عمر البشير، بعدما توحد الداخل السوداني سياسيا وعسكريا ضده؛ فإنها اليوم وفي إطار ما يحدث هناك من صراع عسكري، لن تستطيع التفريط في علاقتها بكل من طرفي هذا الصراع، لصالح إرضاء أحدهما على حساب الآخر.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock