رؤى

الرسم القرءاني.. ودلالة مصطلحي “المُهْتَدِ” و”المُهْتَدِي”

مع استمرار رحلتنا مع الرسم القرءاني عموما، وحول “الرسم القرءاني.. ودلالة مصطلحي يَهۡدِيَنِ ويَهۡدِيَنِي”، وصلنا إلى أن حرف “الياء” بوصفه مؤشرا دلاليا من حيث اختلاف الرسم القرءاني له، يأتي ليتنوع بين زيادة الحرف في بعض المصطلحات القرءانية، بما لذلك من دلالة، وبين ثبوت الياء وحذفها من بعض آخر من المصطلحات، بما لذلك من دلالة أُخرى تختلف عن الأولى.

وهناك أمثلة مُتعددة على الاختلاف الدلالي للمصطلح القرءاني، بين ورود حرف الياء في المصطلح، وعدم وروده فيه؛ بما يُعبر عنه من اختلاف بين الدلالة المادية العضوية، وبين الدلالة الوظيفية. ففي حال عدم تثبيت حرف الياء، فإن ذلك يأتي مؤشرا دلاليا على الجانب المادي العضوي الذي يحمله المصطلح القرءاني؛ أما عند تثبيت حرف الياء، فإنه يُعبر عن الجانب المعنوي الوظيفي للمصطلح القرءاني.

هذا الاختلاف الدلالي، الذي ينتج عن اختلاف الرسم القرءاني بين تثبيت الحرف وعدم تثبيته، يتضح في الاختلاف بين “يَهۡدِيَنِ”، في قوله سبحانه: “وَلَا تَقُولَنَّ لِشَاْيۡءٍ إِنِّي فَاعِلٞ ذَٰلِكَ غَدًا ٭ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُۚ وَٱذۡكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلۡ عَسَىٰٓ أَن يَهۡدِيَنِ رَبِّي لِأَقۡرَبَ مِنۡ هَٰذَا رَشَدٗا” [الكهف: 23-24].. وبين “يَهۡدِيَنِي”، في قوله تعالى: “وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلۡقَآءَ مَدۡيَنَ قَالَ عَسَىٰ رَبِّيٓ أَن يَهۡدِيَنِي سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ” [القصص: 22].

ولأن مصطلحي “يَهۡدِيَنِ” و”يَهۡدِيَنِي”، يحملان معنى “طلب الهداية”؛ لذا، لنا أن نتأمل اختلاف دلالة الهداية في موضع عدم تثبيت حرف الياء [الكهف: 24]، عن دلالته في موضع التثبيت [القصص: 22]؛ فالطلب في الموضع الأول “وَقُلۡ عَسَىٰٓ أَن يَهۡدِيَنِ رَبِّي”، هو “طلب هداية” من المنظور المادي العضوي، بهدف مُحدد “لِأَقۡرَبَ مِنۡ هَٰذَا رَشَدٗا”؛ وهو، على غير حال الطلب في الموضع الثاني “قَالَ عَسَىٰ رَبِّيٓ أَن يَهۡدِيَنِي”، من حيث كونه “طلب هداية” للقيام بمسألة وظيفية ” سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ”.

ويأتي أيضا ضمن الأمثلة القرءانية على الاختلاف الدلالي، الذي ينتج عن اختلاف الرسم القرءاني بين تثبيت حرف “الياء” وعدم تثبيته، الاختلاف رسمًا قرءانيًا بين “ٱلۡمُهۡتَدِ” و”ٱلۡمُهۡتَدِي”.

يقول الله سبحانه: “وَمَن يَهۡدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلۡمُهۡتَدِۖ وَمَن يُضۡلِلۡ فَلَن تَجِدَ لَهُمۡ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِهِۦۖ وَنَحۡشُرُهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمۡ عُمۡيٗا وَبُكۡمٗا وَصُمّٗاۖ مَّأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ كُلَّمَا خَبَتۡ زِدۡنَٰهُمۡ سَعِيرٗا” [الإسراء: 97]؛ ويقول تعالى: “وَتَرَى ٱلشَّمۡسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَٰوَرُ عَن كَهۡفِهِمۡ ذَاتَ ٱلۡيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقۡرِضُهُمۡ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ وَهُمۡ فِي فَجۡوَةٖ مِّنۡهُۚ ذَٰلِكَ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِۗ مَن يَهۡدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلۡمُهۡتَدِۖ وَمَن يُضۡلِلۡ فَلَن تَجِدَ لَهُۥ وَلِيّٗا مُّرۡشِدٗا” [الكهف: 17]. وهنا، لنا أن نُلاحظ كيف ورد مصطلح “ٱلۡمُهۡتَدِ”، في الآيتين الكريمتين، دون تثبيت حرف الياء، ليؤشر دلاليا على الجانب المادي العضوي للمصطلح.

ومن الواضح أن “ٱلۡمُهۡتَدِ” قد ورد في الآيتين مُعرَّفًا بـ”أل” التعريف، ومسبوقا باسم الإشارة “هو”، بما يؤشر إلى الوجود المادي، العضوي، لهذا الذي هداه الله سبحانه وتعالى؛ ولعل ما يؤكد ذلك السياق القرءاني الوارد في الآيتين.

ففي الآية الكريمة الأولى [الإسراء: 97]، يبدو بوضوح أن السياق القرءاني يتضمن عددا من المصطلحات القرءانية، ذات الدلالات المادية العضوية “نَحۡشُرُهُمۡ.. وُجُوهِهِمۡ.. عُمۡيٗا وَبُكۡمٗا وَصُمّٗا.. مَّأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُ.. خَبَتۡ.. سَعِيرٗا”؛ بما يؤكد على الجانب المادي العضوي لمصطلح “ٱلۡمُهۡتَدِ”.

أيضا، في الآية الكريمة الثانية [الكهف: 17]، وإضافة إلى المصطلحات القرءانية الواردة في الآية، لنا أن نُلاحظ أن السياق القرءاني يتضمن الإخبار عن “أهل الكهف”، الذين قال عنهم المولى سبحانه: “إِنَّهُمۡ فِتۡيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمۡ” [الكهف: 13]؛ ثم، عن “ٱلشَّمۡسَ إِذَا طَلَعَت.. وَإِذَا غَرَبَت..”. وبالتالي، التأكيد على أن “ذَٰلِكَ مِنۡ ءَايَٰتِ ٱللَّهِۗ مَن يَهۡدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلۡمُهۡتَدِۖ”؛ بما يعني، إضافة إلى عدم الفصل بين “ءَايَٰتِ ٱللَّهِۗ” وبين “مَن يَهۡدِ ٱللَّهُ”، أن “ءَايَٰتِ ٱللَّهِۗ”، في هذه الحال، هي آيات مادية عضوية، وأن مصطلح “ٱلۡمُهۡتَدِۖ”، في الآية، يحمل دلالة مادية عضوية؛ ولذلك، لم يثبت حرف الياء فيه.

يأتي هذا على العكس من مصطلح “ٱلۡمُهۡتَدِيۖ”، الذي يرد مع تثبيت حرف الياء فيه، مؤشرا دلاليا على الجانب الوظيفي المعنوي للمصطلح. يقول تبارك وتعالى: “سَآءَ مَثَلًا ٱلۡقَوۡمُ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَأَنفُسَهُمۡ كَانُواْ يَظۡلِمُونَ ٭ مَن يَهۡدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلۡمُهۡتَدِيۖ وَمَن يُضۡلِلۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ” [الأعراف: 177-178]. إذ نُلاحظ أن الآية الكريمة تتضمن إخبارا عن “ٱلۡقَوۡمُ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ” بآيات الله سبحانه وتعالى، وبأنهم بهذا كانوا “يَظۡلِمُونَ” أنفسهم؛ ولذلك، فهم يعبرون عن “مَثَلًا” قد “سَآءَ”. وكما يبدو، فإنها كلها أمور تدل على جوانب معنوية، وظيفية، للمصطلحات القرءانية الواردة في الآية؛ بما يعني أن تثبيت حرف الياء في مصطلح “ٱلۡمُهۡتَدِيۖ”، إنما يأتي مؤشرا دلاليا على الجانب المعنوي الوظيفي للمصطلح.

هذا الاختلاف الدلالي نفسه، الذي ينتج عن اختلاف الرسم القرءاني بين تثبيت الحرف وعدم تثبيته، يتضح في عدد من الأمثلة القرءانية، التي كنا قد أشرنا إليها من قبل.. كالمثال الذي نود أن نختتم به الحديث عن حرف الياء، والذي يتبدى في الاختلاف بين “تَسۡـَٔلۡنِ”، في قوله سبحانه: “قَالَ يَٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَيۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَيۡرُ صَٰلِحٖۖ فَلَا تَسۡـَٔلۡنِ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ إِنِّيٓ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ” [هود: 46].. وبين “تَسۡـَٔلۡنِي”، في قوله تعالى: “قَالَ فَإِنِ ٱتَّبَعۡتَنِي فَلَا تَسۡـَٔلۡنِي عَن شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ أُحۡدِثَ لَكَ مِنۡهُ ذِكۡرٗا” [الكهف: 70].

هنا، لنا أن نُلاحظ كيف أن “تَسۡـَٔلۡنِ” وردت في الآية الأولى [هود: 46]، دون تثبيت حرف الياء، بوصفه مؤشرا دلاليا على الجانب المادي العضوي الذي يحمله المصطلح القرءاني “تَسۡـَٔلۡنِ”؛ أما في الآية الثانية [الكهف: 70]، لنا أن نتأمل كيف وردت “تَسۡـَٔلۡنِي” مع تثبيت حرف الياء، لتؤشر دلاليا على الجانب المعنوي الوظيفي للمصطلح القرءاني “تَسۡـَٔلۡنِي”؛ بدليل السياق القرءاني الوارد في الآية الكريمة، الدال على الجوانب المعنوية الوظيفية، خاصة مصطلح “ذِكۡرٗا” في ختام الآية “حَتَّىٰٓ أُحۡدِثَ لَكَ مِنۡهُ ذِكۡرٗا”.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock