جاءت زيارة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، إلى النيجر في17 يوليو المنقضي، لتؤكد على الاهتمام التركي المتنامي بتوسيع الحضور الاستراتيجي في منطقة الساحل وغرب أفريقيا عموما، عبر بوابة نيامي حيث تسعى أنقرة إليها لتأمين حصولها على اليورانيوم منها؛ خاصة في ضوء التحولات الأخيرة في علاقات النيجر مع بعض اللاعبين الدوليين، ولاسيما فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية.
وكما يبدو، تكشف التحركات التركية في منطقة الساحل الأفريقي عن رؤيتها لأفريقيا، باعتبارها ساحة استراتيجية تسعى من خلالها إلى اكتساب المكانة والدور على المستويين الإقليمي والدولي؛ وذلك في إطار محاولة ملء الفراغ الاستراتيجي الذي سببه الانسحاب الفرنسي من المنطقة.
تكتسب زيارة وزير الخارجية التركي أهمية كبرى، وتحديدا في هذا التوقيت الذي يتزامن مع الإعلان عن تدشين “كونفيدرالية” دول الساحل، في 6 يوليو الماضي، 2024، والذي يضم كل من النيجر ومالي وبوركينا فاسو التي كانت قد انسحبت من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إيكواس” في يناير 2024؛ بما يُلمح إلى إعادة تشكيل توازنات القوى الدولية والإقليمية في منطقة الساحل الأفريقي، وفي غرب أفريقيا عموما.
ومن الواضح أن دول التحالف الجديد، المنضوية في إطار كونفيدرالية دول الساحل، وخاصة النيجر، بحاجة إلى توسيع دائرة تحالفاتها الإقليمية والدولية؛ وتحديدا ما يتعلق بالتحالفات الاقتصادية والأمنية والعسكرية. ومن ثم، تأتي طبيعة الوفد التركي، الذي صاحب وزير الخارجية في زيارته إلى النيجر؛ والذي ضم وزير الدفاع إضافة إلى رئيس الصناعات الدفاعية، ووزير الطاقة وغيرهم؛ بما يؤشر إلى أن أهداف الزيارة تتعلق بتعزيز التعاون الأمني، إلى جانب التعاون الاقتصادي والتجاري، فضلا عن أهمية وجود وزير الطاقة التركي في الزيارة، كمؤشر إلى محاولة أنقرة في تأمين مصادر الطاقة التي تتمتع بها النيجر، خاصة اليورانيوم.
والمُلاحظ أن رد الفعل التركي تجاه الانقلابات العسكرية في منطقة الساحل الأفريقي، كان ضمن الأسباب في تقارب قادة هذه الدول مع تركيا؛ حيث تبنت أنقرة خطابا مُناهضا للغرب، وأيدت الانقلابات باعتبارها تُعبر عن قرار وطني داخلي؛ إضافة إلى تصريح الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، برغبته في الحفاظ على العلاقات مع النظام الجديد في النيجر، مع انتقاده فرنسا بسبب ما وصفه بقمع الشعوب الأفريقية على مدار سنوات.
واللافت، أنه في ظل انشغال الغرب بالحرب الروسية الأوكرانية، والصراعات في الشرق الأوسط، خاصة الحرب الإسرائيلية على غزة؛ تُعتبر الفرصة سانحة أمام تركيا للتحرك نحو القارة الأفريقية، خاصة منطقة الساحل وغرب أفريقيا، وذلك بعد سنوات من التحرك في اتجاه شرق القارة.
إذ كان النشاط التركي مُركزًا بدرجة كثيفة في شمال وشرق القارة، ممثلا في اتفاقيات التعاون العسكري مع حكومتي السراج والدبيبة في ليبيا، ومحاولة استعادة علاقاتها مع مصر.. كما وقّعت أنقرة مذكرة تفاهم مع الصومال، تتعهد بموجبها ببناء وتجهيز وتدريب البحرية الصومالية، على مدى السنوات العشر القادمة. هذا، فضلا عن أنها بصدد توقيع اتفاقية عسكرية لتدريب الجيش الأوغندي.
إلا أنه في ظل المساعي التركية للتواجد بالقرب من مسرح الأحداث الإقليمية، سواء في العمق الأفريقي، أو في مناطق الجوار الاستراتيجي، تبرز الأهمية الجيواستراتيجية للنيجر بالنسبة إلى أنقرة، من منظور أنها أكبر دولة في منطقة الساحل، وتقع جغرافيًا في نقطة مهمة تُعتبر فيها في منزلة حلقة وصل بين الشمال الأفريقي ودول أفريقيا جنوب الصحراء، لاسيما أنها تشترك في الحدود مع سبع دول بالمنطقة، بما فيها جوارها المباشر مع ليبيا التي تُمثل مرتكزًا مهمًا بالنسبة للسياسة التركية في الشرق الأوسط وأفريقيا.
أضف إلى ذلك، أن التواجد التركي في النيجر، أو في الحد الأدنى التقارب التركي معها، يضمن لأنقرة الاستفادة من الثروات والموارد الطبيعية والمعدنية التي تحظى بها النيجر؛ خاصة اليورانيوم حيث تأتي النيجر ضمن أكبر عشرة مصدرين له على مستوى العالم. أيضا تحاول أنقرة توظيف علاقاتها الأمنية والدفاعية مع النيجر، في الترويج لنموذجها في الحرب على الإرهاب في المنطقة، التي تشهد تصاعدا في نشاط التنظيمات الإرهابية خلال السنوات الأخيرة، وذلك في إطار محاولاتها الدائمة لتعزيز نفوذها الإقليمي، وملء مساحة استراتيجية واسعة على حساب منافسيها.
يتبدى ذلك بوضوح، من المحاولات التركية في الحصول على تسهيلات عسكرية، في منطقة “أغادير” الغنية باليورانيوم، في شمال البلاد، خاصة أنها تتماس مع كل من ليبيا والجزائر وتشاد؛ وهو ما يمكن أن يسمح لأنقرة بتوطين جنود أتراك هناك، بما يُعزز من سيطرتها على الموارد والثروات التي تحظى بها النيجر.
في هذا الإطار، من المرجح أن ينتقل التنافس بين تركيا وفرنسا إلى مرحلة جديدة على الساحة الأفريقية، وتحديدا في منطقة الساحل الأفريقي، في ضوء مساعي أنقرة لملء الفراغ الذي خلفته باريس في المنطقة؛ بما يؤشر إلى احتمال أن تحاول فرنسا عرقلة النفوذ التركي هناك، خوفا على مصالحها في منطقة غرب أفريقيا.
من جانب آخر، ربما تسعى أنقرة إلى توظيف علاقاتها المتطورة مع النيجر، في تعزيز العلاقات الاستراتيجية مع كونفيدرالية دول الساحل، بما يُعزز من تماسك الكيان الجديد؛ خاصة إذا حاولت تركيا دعم التحالف بالسلاح التركي، لمواجهة الإرهاب، وهو المدخل الاستراتيجي الأكثر أهمية في محاولة التغلغل التركي في منطقة الساحل الأفريقي، وكسب المزيد من النفوذ هناك.
ومن جانب أخير، تنظر أنقرة إلى النيجر باعتبارها سوقًا لطرح المنتجات التركية، والترويج لها على الصعيد الإقليمي في دول جوار النيجر، سيما في ظل المساعي التركية في خلق مركز إقليمي مهيمن في الأسواق الاستهلاكية في المنطقة، بما في ذلك توسيع الصادرات التسليحية التركية، في استغلال واضح للسياق الأمني الإقليمي المضطرب، بسبب انتشار التنظيمات الإرهابية هناك.
وهكذا، ومع محاولة تركيا في توظيف عدد من الأدوات المهمة، في سبيل تعزيز حضورها في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، من خلال بعض المداخل الاستراتيجية، التي يأتي في مقدمتها الأمن والاقتصاد؛ يكون من المتوقع أن تنتقل تركيا إلى مكانة الحليف الاستراتيجي لعدد من دول الساحل الأفريقي، خلال المرحلة المقبلة.