ثقافة

مشاعل إسلامية (6) المحاسبي.. و”العقل”

يُعد كتاب “العقل” للحارث المحاسبي* أول مؤلَف –فيما نعلم– يتناول تعريف العقل ويعين حدود نشاطه واشتغالاته. ويعد “الحارث المحاسبي” أول من تكلّم في إثبات الصفات، وهو ينتسب إلى المدرسة الكلابية التي تزعمها “عبد الله الكلابي” المتوفى 240 هـ والتي يعدها الأشاعرة أساس مدرستهم.

ويؤمن رجال هذه المدرسة بأن الإيمان هو “التصديق بالقلب فقط”. وقد أشار “المحاسبي” إلى هذا المعنى بقوله: “وقال الله عز وجل “وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ” [الحديد: 19] فكل من أقرَّ فقد آمن”.

إلا أن الإقرار المجرد هو عين قول “المرجئة” أما أهل السنة فيختلفون حول هذه الرؤية، من حيث إنهم يرون أن الإيمان يثبت لصاحبه بمكوناته الثلاث: القول والفعل والاعتقاد، وأن الإقرار وحده لا يكفي لوصف  المُقِر بالإيمان؛ لذلك اختلف المحاسبي ليس مع أهل السنة فقط، ولكن مع كثير من الفرق الإسلامية كالمعتزلة والجهمية.. وغيرهم؛ في مسألة الإيمان، وفي مسائل أخرى كثيرة أهمها ما يتعلق بـ”الصفات” و”خلق الأفعال”.

العقل والقدرة الإنسانية

ورغم إقرار المحاسبي بإثبات صفات الله سبحانه وتعالى على وجه الإجمال، ورغم مخالفته للمعتزلة في نفيهم للصفات وتعطيلهم إياها، إلا أنه سار على طريقة “عبد الله الكلابي” في إثبات بعض الصفات، وتأويل البعض الآخر، فكان مما يرى “أن القدرة والمشيئة صفات قديمة لله تعالى، وأنها لا تتجدد” وهي رؤية تتنافى مع “أنه جل وتعالى يفعل ما يشاء وقت ما يشاء، لا مُعقب لحكمه” لأنه تعالى “له الأسماء الحسنى لا الحسنة” كما يشير إلى ذلك “صدر الدين ابن أبي العز الحنفي” المتوفى 792 هـ في كتابه شرح العقيدة الطحاوية في معرض تناوله لرؤية “المحاسبي”.

أما مسألة خلق الأفعال أو ما يخص القدرة الإنسانية، فتبدو بوضوح عبر إيمان رجال المدرسة الكلابية، ومنهم المحاسبي، بأنه: “لا خالق إلا الله، وأن سيئات العباد يخلقها الله، وأن أعمال العباد يخلقها الله عز وجل، وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا منها شيئاً” (البغدادي: أصول الدين، 308).

الحارث المحاسبي

ولقد حاول الأشاعرة، من حيث اعتبارهم المدرسة الكلابية أساس مدرستهم، التخفيف من هذه الصياغة الجبرية لمبدأ التوحيد، فذهبوا إلى أن الفعل الإنساني مخلوق لله ويكتسب من جهة العبد بالقدرة الحادثة التي يخلقها الله فيه، وبحسب تعبير أبو الحسن الأشعري: “فهي منه خلق وللعباد كسب”.

في إطار هذه النظرة للقدرة الإنسانية، وهي نظرة تظل –رغم مقولة “الكسب” الأشعرية– أقرب إلى الجبر منها إلى الاختيار أو الحرية يصبح مفهوم العقل، كما يشير المحاسبي في كتابه “غريزة جعلها الله في الممتحنين من العباد، أقام به على البالغين للحلم الحجة” مؤكدًا أن العقل “غريزة يولد العبد بها، ثم يزيد فيه معنى بعد معنى بالمعرفة بالأسباب الدالة على المعقول”.

وفي ما يبدو فإن التفرقة بين الغريزة التي يولد العبد بها، وبين المعرفة التي تسبب زيادة العقل، تفترض بالضرورة أن العقل–الذي هو غريزة– أساس ووسيلة للمعرفة؛ أما المعرفة نفسها فهي تنشأ نتيجة استخدام العقل، وذلك عن طريق النظر في الأسباب الدالة على المعقول.

العقل ومراحل المعرفة

معنى ذلك، أن ثمة ثلاث مراحل للمعرفة الكاملة، يقسمها “المحاسبي” على الشكل التالي:

المرحلة الأولى، هي الغريزة الفطرية التي “وضعها الله سبحانه وتعالى في أكثر خلقه، لم يطلع عليها العباد بعضهم من بعض، ولا اطلعوا عليها من أنفسهم بروية، ولا بحس ولا ذوق ولا طعم، وإنما عَرَّفَهُم الله إياها بالعقل منه” أي إنها غريزة لا يمكن التعرف عليها إلا بالعقل نفسه، فهي غريزة غير مرئية أو محسوسة أو ملموسة.

المرحلة الثانية، وهي مرحلة الاستدلال والنظر. ويقسم الحارث المحاسبي الأدلة إلى نوعين: “عيان ظاهر، أو خبر قاهر. والعقل مضمن بالدليل. والدليل مضمن بالعقل. والعقل هو المسئول. والعيان والخبر هما علة الاستدلال وأصله. ومحال كون الفرع مع عدم الأصل، وكون الاستدلال مع عدم الدليل”.

الحارث المحاسبي

يعني هذا أن الفرع هنا، هو الاستدلال والأصل هو الأدلة. وتنقسم الأدلة إلى هذين النوعين، العيان والخبر، واعتبار العقل هو المُسْتَدِل، يعبر عن إيمان بفاعلية العقل وقدرته على الوصول إلى المعرفة عن طريق النظر في الأدلة (هذا مع ملاحظة أن العقل غريزة من خلق الله، وأن الأدلة هي التي أقامها الله، أمام أعين المكلفين لينظروا فيها ويستدلوا).

المرحلة الثالثة، هي مرحلة المعرفة أو كمال العقل. ويتفاوت البشر في هذه المرحلة، بناءً على تفاوتهم في القدرة على النظر والاستدلال. وفي هذا الصدد، يقسم الحارث المحاسبي الناس إلى أربعة فرق:

“فرقة عقلت عن الله تعالى عظم قدره وقدرته وما وعد وتوعد، فأطاعت وخشيت.. وفرقة عقلت البيان ثم جحدت كبرًا وعنادًا لطلب الدنيا”.. ثم “فرقة طغت وأعجبت وقلدت، فعميت عن الحق أن تتبينه ثم تقربه، ثم تجحده كبرًا وطلبًا للدنيا بعد عقلها للبيان، فظنت أنها على حق ودين وهي على شر وباطل وضلال”.

وأخيرًا، “فرقة رابعة عقلت قدرة الله عز وجل في تدبيره وتفرده بالصنع، وعرفت قدر الإيمان في النجاة بالتمسك به، وقدر العقاب في ضرره في مجانبة الإيمان، فلم يجحدوا كبرًا ولا أنفة وآمنت، ولم تعقل عظيم قدر الله في هيبته، وجلالته، وعظيم قدر ثوابه وعقابه في إتيان معاصيه، والقيام بفرائضه، فعصت، وضيعت، وغفلت، ونسيت؛ إلا أنها علمت عظيم قدر الإيمان في النجاة، وعظيم ضرر الكفر، قد عقلته عن الله تعالى فهي قائمة به، دائمة عليه”.

العقل والسلوك الإنساني

وبالرغم من أن الفارق بين هذه الفرق الأربع، إنما يكمن في السلوك العملي المترتب على المعرفة، فإن الحارث المحاسبي، يعتبر مثل هذا الفارق، فارقًا في الفهم والمعرفة والعقل.

ولعل الجدير بالملاحظة، والتأمل، أن الحارث المحاسبي كان من المنظرين الكبار الذين بنوا مدرسة خاصة، تربط بين علم الكلام وبين التصوف؛ لذا لم يكن على طريقة الغلاة من المتصوفة، بل كان يدعو إلى التمسك بالكتاب والسنة ومتابعة الشرع، وكان جل تركيزه “على أعمال القلوب وخطرات النفس، ومسائل تتعلق ببواطن الأعمال ومقاصد الإنسان فيها، كالنية والمراقبة والتوكل والتيقظ”.. وغيرها بما يراه من وسائل إصلاح النفس.

الحارث المحاسبي

ومن هنا، فقد كان المحاسبي “الصوفي” يعطي للعمل والسلوك الديني والمجاهدة الروحية، دورًا خطيرًا في الحكم على البشر. ومن ثم لا يفصل بين المعرفة والسلوك الإنساني العملي، ويعتبر التهاون في العمل نقصًا في المعرفة الحقة كما يفهمها المتصوفة. وهو في هذا، يكاد يقترب مما قاله الجاحظ من أن “المعرفة حاصلة لكل البشر، لولا أنهم جحدوا وعاندوا طلبًا للدنيا”.

إلا أن الفرق بينهما، أي بينه وبين الجاحظ، هو رؤية المحاسبي أن الله سبحانه “قد يخص بالتنبيه والتوفيق من يشاء من عباده، ويختص بجواره من أحب من خلقه”، بحسب ما يؤكد في كتابه “العقل”؛ وهو ما يعني، إذا تأملنا عبارة المحاسبي، أنه يرد التهاون في العمل، وفي غيره، من محاسن ومعاصي الإنسان، إلى إرادة الله الشاملة؛ بما يؤكد على رؤية المدرسة الكلابية، ونقاط ارتكاز المذهب الأشعري.

وأيًا يكن الأمر، وأيًا يكن الاختلاف والاتفاق مع تناول الحارث المحاسبي لمفهوم العقل في الإطار العام لمحاولته الدمج بين علم الكلام والتصوف؛ فإنه سوف يظل أول من تناول “مفهوم العقل” في تاريخ الفكر الإسلامي.

—————————————

*الحارث بن أسد بن عبد الله العنزي المحاسبي البصري البغدادي كنيته أبو عبد الله، ولد في البصرة سنة 170 هـ في زمن الخلافة العباسية. وسمي “المحاسبي” لأنه كان يحاسب نفسه. إمام وزاهد من أكابر الصوفية وأحد العلماء المشهورين في القرن الثالث الهجري. كَتب الحديث وتفقه وعرف مذاهب النُسَّاك وآثارهم وأخبارهم، وتصانيفه مشهورة كثيرة. توفي ببغداد سنة 243 هـ.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock