يعتبر التفكير الإيجابي أحد أهم المهارات التي نستطيع من خلالها التغلب على العوائق التي تواجهنا في حياتنا وأثناء سعينا لتحقيق أهدافنا، وبالتالي يجب أن نسعى دائماً إلى تقوية هذه المهارة لما لها من منافع جمّة على شخصية الإنسان، منها التفكير الإبداعي أو التفكير خارج الصندوق، حيث يساهم التفكير الإيجابي في إيجاد قاعدة صلبة من العلاقات الطيبة بين الأشخاص والتي تدوم لفترات طويلة جدا، وذلك لكون الإيجابية هي بداية الطريق للنجاح والثقة بالنفس. ولكن كيف يمكن لنا تعلم التفكير الإيجابي؟
وقد تناولنا في الجزء الأول أربعة عناصر نستطيع من خلالها اكتساب التفكير الإيجابي.. ونستكمل في هذا الجزء.
خامسا- علامات المرونة الفكرية والقوة الذهنية: يتغلب الأشخاص الأقوياء ذهنيا الذين يتمتعون بالمرونة، على المحن في حياتهم بمرور الوقت، ويتعلمون دروسا قيمة منها، ويمكنهم في كثير من الأحيان أن يصبحوا مستنيرين بسبب النكسات التي تبدو مستحيلة، بحسب ما ورد في تقرير نشره موقع “علم النفس اليوم”.
– آليات دفاعية وتأقلم استباقي: وفقا للباحثة جيسي ميتزتجر، اختصاصية علم النفس، فإن الشخص القوي ذهنيا صاحب الإرادة والعزيمة يمتلك عموما النضج العاطفي وآليات الدفاع التكيفية.
ترتبط المرونة ارتباطا سلبيا بعلم النفس المرضي وترتبط بالصحة النفسية الجيدة ومهارات التأقلم الاستباقي ومرونة الشخصية والقدرة على التكيف. يميل الأشخاص المرنون إلى أن يكونوا قادرين على رؤية منظور الآخر أثناء الخلافات، وحل المشكلات بمرور الوقت، والحصول على نتائج إيجابية في الحياة أكثر من النتائج السلبية.
كتبت الدكتورة تريسي هاتشينسون*، اختصاصية الصحة النفسية السريرية**، في تقريرها، قائلة إن الصحة النفسية الجيدة ترتبط بالمرونة. يشعر معظم الناس بالاكتئاب أو القلق في مرحلة ما، لكن الأشخاص المرنين ذهنيا يستخدمون الموارد المتاحة لديهم للعمل على التحسن. على سبيل المثال، نظرا لأنهم يميلون إلى أن يكونوا ناضجين عاطفيا، فإنهم يرون الواقع كما هو، ويتواصلون للحصول على الدعم، ويكونون سباقين في حل مشكلاتهم.
في المقابل، يرى الأشخاص غير الناضجين عاطفيا الأمور من منظورهم الخاص فقط، ويشعرون أن مشاكلهم أكبر من مشاكل الآخرين، ويلومون الآخرين على مشاكلهم الذاتية. كما يمكن في الكثير من الأحوال أن تقوم تصوراتهم المبنية على “ما يشعرون به” بإبطال تصوراتهم للواقع الحقيقي([1]).
لذا، يمكن الاستفادة فيما يلي من سبع سمات، تميز الأشخاص الأقوياء ذهنيا وأصحاب الإرادة والمرونة، لاستعادة العافية والتغلب على النكسات والأزمات بشكل جيد([2]):
1- الواقع كما هو وبشكل مباشر: يُقيِّم الأشخاص المرنون ذهنيا الحقائق والأبحاث والتعليقات من المتخصصين والأحباء. إنهم لا يغيرون عقليا التاريخ أو الواقع، ولكن كما هو، يشتمل التعامل مع الواقع في معظم الأحوال على التخطيط ورؤية الموقف بوضوح وبشكل متكرر إلى جانب التشاور مع الآخرين حتى يكونوا مستعدين لعواقب سلوكهم وما يمكن أن يطرأ من مستجدات.
2- تقبل عواقب الاختيارات: إنهم يتحملون المسئولية عن أفعالهم وآثار قراراتهم. إنهم لا يتجاهلون الأذى أو الآلام التي تحدث نتيجة لذلك، ولا يتبنون دور “الضحية” من خلال إلقاء اللوم على الآخرين في المشكلات التي يسببونها لأنفسهم. كما أنهم يتعاطفون مع أنفسهم تجاه أنفسهم في الأوقات الصعبة، مع العلم أنهم يبذلون قصارى جهدهم في أي ظرف من الظروف.
3- القدرة على المراقبة الذاتية: تعني المراقبة الذاتية أنه يمكن للمرء أن يكون لديه وعي بسلوكه ومشاعره وأفكاره، وتنظيم مشاعره واستجاباته بناءً على متطلبات الموقف. ولأنهم يتعاملون بشكل استباقي بشأن مشكلاتهم، فإنهم يتواصلون للحصول على المساعدة لحل المشكلات. ويتحملون المسئولية عن أفعالهم ويرون كيف تؤثر أفعالهم على الآخرين.
4- تصحيح الذات: يقوم الأشخاص المرنون والأقوياء نفسيا وذهنيا بتعديل ردود أفعالهم في أي موقف لإحداث عواقب إيجابية، لأنهم يتعلمون من أخطائهم، فإنهم يتوصلون إلى عواقب إيجابية في حياتهم أكثر من النتائج السلبية.
5- توظيف إيجابي للألم والأذى: كتب بيتهوفن السيمفونية التاسعة من خلال توجيه يأسه على إصابته بالصمم. في هذا السياق، تجاوز بيتهوفن تحدياته ووصل إلى مساهمة جميلة في عالم الموسيقى والفن. غالبا ما يحاول الأشخاص الأقوياء ذهنيا استخدام ما سبق أن خبروه، من خلال تجاربهم في النضال والتعرض للأذى لمساعدة الآخرين.
6- دمج المشاعر والحقائق: تقوم الواقعية العاطفية ببناء الواقع على ما يبدو عليه. وفي هذا النمط من التفكير، تطغى العواطف ويمكن أن تؤثر على كيفية إدراك المرء للمحتوى وتحديد الواقع، والذي ربما يكون مشوها لأنه يستند إلى عدسة عاطفية بحتة.
على الرغم من أن الأشخاص الأقوياء ذهنيا يمكن التغلب عليهم بالعواطف مثل أي شخص آخر، إلا أنهم يشاركون في اختبار الواقع. إنها القدرة على التعرف على الفرق بين مشاعرهم الداخلية والعالم الخارجي. لذلك، يمكنهم الوصول إلى مواقفهم العقلانية باستمرار. يعد الوصول إلى الحكم العقلاني بعد فترة قصيرة وتطبيق الحقائق والمنطق على المواقف أمرا بالغ الأهمية في كل من النضج العاطفي والمرونة النفسية.
7- استثمار خبرات الماضي: يمكن للأشخاص الأقوياء ذهنيا أن يتصالحوا مع الأحداث المؤلمة عاطفيا في ماضيهم والتعامل معها، بالإضافة إلى إدراك أن ماضيهم ربما يؤثر على أدائهم الحالي. ولأنه يمكن أن يؤدي “دفن” العواطف أو الصدمات إلى المعاناة من الإفراط في تناول الطعام واضطرابات الأكل أو تعاطي الممنوعات أو غيرها من السلوكيات القهرية أو الإشكالية([3]).
خلاصة القول يسعى الأشخاص الأقوياء ذهنيا إلى الحصول على مساعدة احترافية أو إيجاد طريقة أخرى لاستقلاب آلامهم مثل التواصل مع أحبائهم الموثوق بهم أو كتابة اليوميات أو البحث عن الشفاء من خلال الرعاية الذاتية، أو من خلال القدرة على معالجة هذه الأحداث وخيبات الأمل أو الصدمات، فإنها لا تتراكم وبالتالي لا تتسبب في حدوث مشاكل واسعة النطاق لاحقا في الحياة الاجتماعية.
كما نجد أن الأشخاص الذين لديه شخصية إيجابية ومرنة يتمتعون بمستوى مرتفع من الذكاء العاطفي؛ يوظف في تحقيق النجاح في حياتهم الشخصية والاجتماعية والمهنية، وفي هذا السياق نستعرض مجموعة من الصفات التي يشترك فيها الأشخاص الناجحون من أصحاب الذكاء العاطفي المرتفع، وهي كالآتي:-
أولا: لا يسعون للكمال، إن سعيك للكمال قد يقف بينك وبين إتمام المهام وتحقيق أهدافك، لأنك ستجد صعوبة جمّة عندما تريد البدء بأي عمل، وستجد نفسك تماطل وتفاضل بين المهام، الأمر الذي سيستغرق منك وقتا طويلا حتى تستقر على رأي. ولهذا السبب لا يسعى أصحاب الذكاء العاطفي العالي للكمال، ويدرك هؤلاء بأن الكمال غير موجود، لذا يمضون قُدما بخطى واثقة. وفي حال وقعوا في خطأ، يجرون التعديلات اللازمة، ويتعلمون من ذلك الموقف.
ثانيا: يعرفون كيف يحققون التوازن بين العمل والراحة. إن العمل لفترة طويلة من الزمن من دون العناية بنفسك، سيؤدي إلى مشاكل نفسية وصحية أنت في غنى عنها، ولهذا السبب، يعرف أصحاب الذكاء العاطفي المرتفع متى يحين وقت العمل ومتى يحين وقت الاسترخاء. فعلى سبيل المثال، إذا كان هؤلاء الأشخاص يريدون الانقطاع عن العالم لبضع ساعات أو حتى في عطلة نهاية الأسبوع، فإنهم يفعلون ذلك، نظرا لحاجتهم لوقت مستقطع للحد من مستويات التوتر والإجهاد.
ثالثا: يتقبلون التغيير، بدلا من الخوف من التغيير، يدرك أصحاب الذكاء العاطفي أن التغيير هو جزء لا يتجزأ من الحياة. والخوف من التغيير يعيق النجاح، لذلك يتكيف هؤلاء الأشخاص مع التغيرات المحيطة بهم، كما لديهم خطة تعينهم على التأقلم مع المستجدات الطارئة.
رابعا: لا يتشتت انتباههم بسهولة، لدى الأشخاص ذوي الذكاء العاطفي المرتفع القدرة على التركيز بشدة على المهام الموكلة إليهم، ولا يتشتت انتباههم بسهولة بفعل البيئة المحيطة بهم.
خامسا: التعاطف مع الآخرين، يقول دانييل جولمان، في كتابه “ركِّز (المحفز الخفي للتميز)”، إن التعاطف هو أحد المكونات الخمسة للذكاء العاطفي. في واقع الأمر، إن قدرتك على التواصل مع الآخرين وإظهار تعاطفك معهم، وانتهاز الفرصة لمساعدتهم، من العناصر الحاسمة التي من شأنها رفع مستوى الذكاء العاطفي الخاص بك.
سادسا: يدركون مكامن قوتهم وضعفهم. يعرف أصحاب الذكاء العاطفي الأشياء التي يبرعون فيها والأشياء التي لا يتقنوها، كما أنهم يعرفون أيضا كيفية الاستفادة من نقاط القوة والضعف من خلال العمل مع الأشخاص المناسبين وفي الوقت المناسب.
سابعا: لديهم دوافع ذاتية. إذا كنت ذلك الطفل الطموح الذي يعمل بجد واجتهاد، وكان دافعك الحقيقي تحقيق هدفك وليس المكافأة فقط؟ كونك مثابر، حتى لو في سن مبكر، فهي إحدى السمات التي يمتلكها أصحاب الذكاء العاطفي.
ثامنا: عدم الرجوع إلى الماضي، ليس لدى أصحاب الذكاء العاطفي المرتفع وقت للتفكير بالماضي، لأنهم منشغلون جدا بالتفكير في الاحتمالات التي سيجلبها لهم المستقبل، كما لا يدعون الأخطاء السابقة تثبط معنوياتهم. تاسعا: يركزون على النواحي الإيجابية. يفضل أصحاب الذكاء العاطفي تكريس وقتهم وجهدهم في حل المشاكل، وبدلا من النظر إلى السلبيات، يتطلعون للنواحي الإيجابيــــة وما يمتلكون السيطرة عليه([4]).
وهكذا نجد أن الذكاء الذهني وحده غير كافٍ للنجاحات المستقبلية، بل يجب أن يتوفر إلى جانبه الذكاء العاطفي، فهو عبارة عن قدرات ومهارات قد تكون موجـودة لدى الشخص وقد تكـون غير موجودة، ولكن يمكن اكتسابها وتنميتها وتدريب النفس عليها. وفي ذات السياق لابد لنا من الإشارة إلى العلاقة القائمة بين الإيمان والذكاء العاطفي، فإذا كان الذكاء العاطفي يمكن الإنسان من التعامل الإيجابي مع ذاته ومع الآخرين حيث يحقق لنفسه ولمن حوله أكبر قدر من السعادة، فإن الإيمان يمكن الإنسان من التعامل الإيجابي مع ذاته ومع الآخرين حيث يحقق لنفسه ولمن حوله أكبر قدر من السعادة في الدنيا والآخرة، وإن الإنسان يشعر بحلاوة الإيمان عندما يتحلى بمهارات الذكاء العاطفي ويربطها بربه ودينه وآخرته.
* تريسي هاتشينسون، دكتوراه، أكاديمية وممارس واستشاري في مجال الإرشاد والصحة العقلية السريرية. عملت كأستاذ مساعد وأستاذة تدريس على مستوى الدراسات العليا لعدة جامعات في مجال تعليم المستشار والإشراف. لها منشورات في مجلات علمية وكتب مدرسية خاضعة لمراجعة الأقران في هذا المجال، وقدمت في العديد من المؤتمرات الدولية والوطنية والمحلية في مجال استشارات الصحة العقلية وعلم النفس. وهي مرخصة للممارسة في كل من فلوريدا وولاية نيويورك كمعالجة ومشرفة إكلينيكية معتمدة للمعالجين في التدريب.
** الصحة النفسية: الصحة النفسية أو الصحة العقلية هي مستوى الرفاهية النفسية أو العقل الخالي من الاضطرابات، وهي الحالة النفسية للشخص الذي يتمتع بمستوى عاطفي وسلوكي جيد. من وجهة نظر علم النفس الإيجابي أو النظرة الكلية للصحة العقلية من الممكن أن تتضمن قدرة الفرد على الاستمتاع بالحياة وخلق التوازن بين أنشطة الحياة ومتطلباتها لتحقيق المرونة النفسية. ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية تعني الصحة النفسية الحياة التي تتضمن الرفاهية والاستقلال والجدارة والكفاءة الذاتية بين الأجيال وإمكانات الفرد الفكرية والعاطفية. سريري هو مصطلح طبي مشتق من السرير في المستشفى، ويستخدم في الإشارة إلى: الفحص السريري، علامة سريرية، دراسة سريرية. بشكل عام فإن الفحص السريري والعلامات السريرية تشير إلى ما يمكن للطبيب أن يلاحظه على المريض أو أن يفحصه في غرفة الفحص بدون استخدام آلات تشخيصية أو معدات طبية أو مخبرية، ولكن عن طريق النظر إلى المريض وفحصه في السرير. كما يستخدم المصطلح في الاستخدامات السريرية مرادفاً لاستخدامات داخل المشفى كإشارة إلى سرير المرض. من ناحية أخرى فإن المصطلح سريري يستخدم عند بعض الأوساط الطبية للتفريق ما بين الاستخدام النظري المدرّس في الكتب والاستخدام العملي “عند سرير” المرضى أي الجانب العملي. وفي شرح ماهية الصحة النفسية السريرية، تقول US News & World Report أنها تتضمن تقييم الحالات النفسية والعقلية والجسدية للعملاء، وتحديد الإدمان والمشاكل السلوكية وتحديد مدى استعداد العملاء للعلاج. بعد تطوير استراتيجيات العلاج وتقديمها للعملاء وعائلاتهم، يساعد المستشارون العملاء على اكتساب المهارات وتعلم السلوكيات التي تضعهم على طريق العافية النفسية والعقلية.
– لمزيد من القراءة والاطلاع: https://counseling.online.wfu.edu/blog/what-is-clinical-mental-health-counseling/
([1]) حسام الدين فياض: سوسيولوجيا العلاقات الاجتماعية، مرجع سبق ذكره، ص(231-232).
([2]) Tracy S. Hutchinson: 7 Signs of Mentally Strong People, Psychology Today, New York, Posted September 8, 2022. https://www.psychologytoday.com/us/blog/the-pulse-mental-health/202209/7-signs-mentally-strong-people
([3]) Ibid, https://www.psychologytoday.com/us/blog/the-pulse-mental-health/202209/7-signs-mentally-strong-people
([4]) حسام الدين فياض: تمظهرات السلوك الإنساني في المجتمع المعاصر، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب: السادس، دار الأكاديمية الحديثة، أنقرة، ط1، 2024، ص(93-94).