رؤى

اللغة.. وتشكيل هويتنا الاجتماعية!

”اللغة أقدم تجليات الهوية، أو هي التي صاغت أول هوية لجماعة في تاريخ الإنسان، إن اللسان الواحد هو الذي جعل من كل فئة من الناس “جماعة” واحدة، ذات هوية مستقلة“.

”تعد اللغة، فضلا عن دورها المهم كأداة تحاور ونقل المعلومات من الأوعية المهمة في تكوين الهوية، فهي مخزون الحضارة والأفكار للأمة، لما تعبر عنها من تراكم معرفي للأجيال المتعاقبة. وهي الميزان الذي به تقاس الهوية وقدرتها على الثبات والتحول أمام المستجدات والتطور. فاللغة هي التي تربط بين الحضارات وتخلد الأمم، كأنها مفتاح الغد الذي ينقل الماضي وإرثه، فإن الثقافات تتحاور وتتداخل مثلها مثل اللغات. واللغة هي الوعي الإنساني للواقع ولها قيمة ثقافية مهمة كرمز لوجود الأمة، هي واحدة من العناصر الأساسية لهويات الأمة والجنسيات ووسيلة لنقل الإرث الفكري الخاص بالمجتمعٍ ما، وهي الأساس لتشكيل المجتمع الوطني وتوحيده، ولذلك فإن تعزيز هوية اللغة هو الطريق لبناء المجتمع الوطني المشترك“.

كما نعلم تعتبر اللغة جانبا أساسيا من جوانب التواصل البشري وتلعب دورا حاسما في تشكيل هوية الشخص. ويعكس استخدامنا للغة هوياتنا الثقافية والإثنية والوطنية والشخصية، ويؤثر عليها.

ومن خلال اللغة نعبّر عن أفكارنا وعواطفنا وتجاربنا، وهي عنصر أساسي في كيفية تواصلنا مع الآخرين وتكوين روابطنا الاجتماعية. لذا، يركز هذا المقال على العلاقة المتعددة الأوجه بين اللغة والهوية، ويبحث في كيفية مساهمة اكتساب اللغة والاختلافات والجنس والوضع الاجتماعي وديناميكيات القوة في بناء هوية الفرد. باختصار شديد، تشكل اللغة الوسيلة الأساسية التي ندير بها حياتنا الاجتماعية، وهي الناقل الذي يعكس هويتنا للآخرين وينقل ثقافتنا. فالهوية هي لفظ لا تيني مشتقة Sameness يعني الشيء نفسه بما يجعله مغايرا ومميزا عما يكون عليه شيء آخر، وتستخدم كلمة الهوية في الأدبيات المعاصر لأداء معنى Identity التي تعبّر عن مطابقة الشيء لنفسه، أو الاشتراك مع شيء آخر يشابهه في الصفات والخصائص عينها. أو هي مجمل السمات التي تميز شيئا عن غيره أو شخصا عن غيره أو مجموعة عن غيرها. كل منها يحمل عدة عناصر في هويته. عناصر الهوية هي شيء متحرك ديناميكي يمكن أن يبرز أحدها أو بعضها في مرحلة معينة وبعضها الآخر في مرحلة أخرى”، والهوية بالمعنى الفلسفي “تعني حقيقة الشيء من حيث تميزه عن غيره، وتُسمى أيضا وحدة الذات”، بالتالي فالهوية الثقافية لأي شعب هي القدر الثابت والجوهري والمشترك من السمات والقسمات العامة التي تميز حضارته عن غيرها من الحضارات، باختصار شديد “إن هويتك بكل بساطة هي ماهيتك”.

لذلك هناك علاقة قوية بين مفاهيم اللغة والهوية والاختلافات الثقافية. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق: كيف تتشابك اللغة بشكل عميق مع الهوية؟

تشير الهوية إلى الخصائص والمعتقدات والقيم والتجارب التي تحدد الفرد أو الجماعة. وهي تقدم جوانب مختلفة مثل الهويات الثقافية والإثنية والوطنية والشخصية والاجتماعية. واللغة، باعتبارها وسيلة أساسية للتواصل، متشابكة بشكل معقد مع هذه الأبعاد المختلفة للهوية، حيث تعمل اللغة كمرآة للهوية الثقافية، من خلال تجسد القيم والتقاليد والمعتقدات المشتركة لمجموعة معينة، وغالبا ما تعكس المفردات والقواعد والتعبيرات المستخدمة في لغة الفروق الثقافية وتجارب متحدثيها. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يكشف استخدام كلمات أو تعبيرات أو استعارات معينة عن القيم والممارسات الثقافية التي ينبنها الفرد. ومن خلال استخدام اللغة، يؤكد الأفراد على عضويتهم واتصالهم بمجموعة ثقافية معينة، ما يعزز هويتهم الثقافية.

وهكذا ترتبط لغتنا ارتباطا وثيقا بالهوية العرقية. وغالبا ما يكون للمجموعات العرقية لغاتها أو لهجاتها المميزة، والتي تعمل كعلامة على تراثها الثقافي وانتمائها الجماعي. يمكن أن تكون اللغة مصدرا للفخر والتضامن داخل المجتمع العرقي، وتوفر وسيلة للحفاظ على التقاليد الثقافية ونقلها عبر الأجيال. إنها تسمح للأفراد بالتعبير عن هويتهم العرقية الفريدة وتعزيز الشعور بالانتماء. إن العلاقة المعقدة بين اللغة والهوية العرقية أو الإثنية لا يمكن إنكارها. فتاريخ الفرد يشكل لغته، ما يؤدي إلى أن يستخدم الأشخاص الذين لديهم خلفيات عرقية مماثلة لغات مماثلة للتواصل. واللغة الأم التي يكتسبها المرء عند الولادة تشكل جانبا أساسيا من الهوية العرقية، وتوفر شعورا بالغ الأهمية بالانتماء، وخاصة في وقت مبكر من الحياة.

بناءً على ما سبق يمكننا التأكيد على أن اللغة تلعب دورا مهما في تشكيل الهوية الوطنية. وفي كثير من الحالات،  تُعَرَّف الأمة بلغتها الرسمية، ويمكن أن تكون اللغة رمزا قويا للوحدة الوطنية.

إن التحدث بلغة مشتركة يعزز الشعور بالتاريخ والثقافة والقيم المشتركة بين المواطنين. ويمكن أن تكون اللغة أيضا أداة للتكامل الوطني، وتعزيز التماسك الاجتماعي وتسهيل التواصل بين السكان المتنوعين.

علاوة على ذلك، ترتبط اللغة ارتباطا وثيقا بالهوية الشخصية، لأن اللغة أو اللغات يمكن أن تؤثر على شعور الفرد بذاته، وعلاقاته مع الآخرين، ونظرته للعالم. تشكل اللغة الطريقة التي يدرك بها الأفراد العالم من حولهم ويفسرونه، وتوفر عدسة فريدة يعبرون من خلالها عن أفكارهم وعواطفهم وتجاربهم. يمكن أن يعكس اختيار الشخص للغة التفضيلات الشخصية والتطلعات والانتماءات، ما يساهم في تشكيل هويته الشخصية.

بالإضافة إلى ذلك، يُعد اكتساب اللغة أثناء مرحلة الطفولة عامل حاسم في تكوين هوية الشخص، لأنها تسمح للأطفال بالتواصل والانخراط في التفاعلات الاجتماعية. فمن خلال اللغة، يستطيع الأطفال التعبير عن أفكارهم ومشاعرهم ومنظورهم وفهمهم وأفكارهم، كما يمكنهم أيضا التعرف على العالم من حولهم. وهذا يساعدهم على تطوير شعورهم بالذات ومكانتهم في العالم. بمعنى أوسع تلعب الأسرة الدور الأكثر أهمية في تطوير المهارات اللغوية لدى الطفل. وتتأثر هذه المهارات بالمدخلات اللفظية الإيجابية التي يتلقاها الأطفال من والديهم في بيئتهم المنزلية. إن الكلام الذي يسمعه الأطفال من حولهم هو المصدر الوحيد للمعلومات حول تلك اللغة. ومع نمو الأطفال، يتعلمون لغتهم الأم – لغتهم الأولى – ما يمنحهم القدرة على التواصل مع والديهم. ونظرا لكمية الوقت التي يقضيها الأطفال في التفاعل مع والديهم بشكل منتظم، فليس من المستغرب أن يلعب الآباء دورا حاسما في تطوير لغة أطفالهم من خلال نقل مهارات الكلام المستهدفة لتطوير شكلهم الخاص من التواصل. ومع ذلك، يفترض علماء النفس اللغويون التنمويون أن الأطفال في الواقع يسمعون عينة عشوائية فقط من عبارات البالغين، والتي تتميز بكل التلعثم والأخطاء والتشويش والتناقضات والتعقيدات الشائعة في كلام البالغين للبالغين الآخرين. بعبارة أخرى، يتعرض الأطفال إلى حدٍ كبيرٍ لأنواع مختلفة من الكلام في البيئة الاجتماعية للأسرة. إن هذه العملية تجعلهم قادرين على إدراك كل شيء، ومن الطبيعي أن يتم تشجيع الأطفال على تقليد سلوك آبائهم، وخاصة في الكلام. وهذا هو السبب وراء التأثير الكبير للغة الأم على شخصية الفرد ونموه النفسي والاجتماعي، فهي تشكل هويته المميزة منذ الطفولة، عندما يكون المتحدثون الصغار على اتصال وثيق بآبائهم. وهكذا تلعب اللغة الأم دورا مهما في تشكيل ثقافة الطفل وهويته ومعتقداته. وفقا لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، فإن قيمنا ومعتقداتنا وهويتنا مضمنة في اللغة. وإذا كان الأطفال لا يتحدثون لغة والديهم، فقد يكون من الصعب التعرف على هويتهم وجذورهم.

أما فيما يتعلق بالبيئات المتعددة اللغات أو ثنائية اللغة، يصبح اكتساب اللغة أكثر تعقيدا. فالأفراد الذين يكبرون وهم يتحدثون لغات متعددة يتنقلون في سياقات لغوية وثقافية مختلفة، ما يؤدي إلى هوية متعددة الأوجه. توفر ثنائية اللغة والتعدد اللغوي للأفراد القدرة على التعبير عن أنفسهم بطرق مختلفة، والتكيف مع البيئات الاجتماعية المتنوعة، والانخراط في مجموعة أوسع من التجارب الثقافية.

وغالبا ما يطور الأفراد ثنائيو اللغة ومتعددو اللغات هوية “هجينة” تتضمن عناصر من كل لغة وثقافة يتعرضون لها. قد ينتقلون بين اللغات حسب السياق الاجتماعي أو يفضلون لغات معينة لأغراض محددة. تسمح هذه السيولة الفكرية والثقافية في استخدام اللغة بالتعبير عن الهوية بشكل أكثر دقة.

خلاصة القول، يمكننا أن نعترف أن اللغة ليست مجرد أداة للتواصل، بل هي أيضا وسيلة للتعبير عن الواقع الثقافي لشعبٍ ما. تعكس اللغة منظور وفهم وهوية الأمة وأفرادها. علاوة على ذلك، ترتبط اللغة والثقافة ارتباطاً وثيقاً، وتؤثر كل منهما على الأخرى. ويمكن أن يساعد فهم هذه العلاقة في التواصل الاجتماعي وفهم الاختلافات الثقافية.

وعلى الصعيد الأسري، لا يمكننا تجاهل مقدار الوقت الذي يقضيه الآباء مع أطفالهم في تشكيل أسلوبهم التواصلي وبناء هويتهم الشخصية، باعتباره من أهم العوامل في تطور لغة أطفالهم، ما يسهم في تشكيل هوياتهم، ومع نضوج الأطفال في مرحلة المراهقة، تتغير هوياتهم مع تزايد وعيهم بكيفية نظر أقرانهم إليهم، مما يؤثر على استخدامهم للغة بطريقة تمثل مكانتهم الاجتماعية. وأخيرا، يؤدي الموقع الجغرافي إلى اختلاف اللهجات، ما قد يؤدي إلى حواجز لغوية، ما يجعل التواصل بين الأشخاص الذين يتحدثون نفس اللغة صعبا في بعض الأحيان. بناءً على هذه العوامل يمكننا أن نستنتج أن الهوية ليست مفهوما ثابتا أبدا بل إنها تتغير بمرور الوقت مع تطور لغة الشخص في سياق اجتماعي محدد.

وفي النهاية، نجد أن اللغة لها وظيفتان رئيسيتان، فهي تساعد على التواصل وتمنح مجموعة من الناس شعورا بالهوية والفخر والاعتزاز. وعادةً ما يحدد الناس هويتهم بلغة معينة، وتستخدم جماعات مختلفة لغة عامية لا يفهمها إلا أفراد الجماعة. وقد تُؤكد اللغة على الوضع الاجتماعي، والجنسي، والعرقي للفرد، فالأشخاص الذين ينتمون إلى وضعيات اجتماعية مختلفة غالبا ما يستخدمون لغات تؤكد هويتهم. فاللغة هي مصدر تكوين الهوية من خلال استخدامها في سياق الحياة الاجتماعية.

– المراجع المعتمدة:

– جون جوزيف: اللغة والهوية، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد: 342، أغسطس 2007.

– لي يا جيوان: اللغة والثقافة والهوية (الهوية اللغوية وبناء المجتمع الوطني اللبناني المشترك)، مجلة الجنان، المجلد: 19، المقال: 16، 2019

– مجموعة مؤلفين: الهوية واللغة والتعددية اللسانية، منشورات دار الحبيب، الجزائر، أكتوبر 2006.

– أحمد حسين: الهوية العربية مقوماتها ومحددات تعريفها: إطار نظري ومقاربة تحليلية، المجلة الاجتماعية القومية، المجلد: 53، العدد: 02، مايو 2016.

– عبير بسيوني رضوان: أزمة الهوية والثورة على الدولة، دار السلام، القاهرة، ط1، 2012.

– فيصل الحفيان: العلاقة بين اللغة والهوية (إشكاليات المفاهيم وجدل العلاقات)، موقع الألوكة، 2009.09.05. https://2u.pw/QsH9HgXr

– Sultan Hammad Alshammari: The Relationship Between Language, Identity and Cultural Differences: A Critical Review, Research on Humanities and Social Sciences, Vol:8, No:4, 2018.

– CLAC VIII:  The Relationship Between Language and Identity, Medium, Jun 11, 2023. Date of entry to the site (23.08.2024).

  https://medium.com/@clacviii2023.1/the-relationship-between-language-and-identity-7e0d23d67da1

– Jessica Vizuette:  Language and Identity: The Construction of the Self,  Arcadia website, Jun 6, 2022. Date of entry to the site (23.08.2024).

 https://www.byarcadia.org/post/interaction-between-language-and-society-101-language-and-identity

حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة قسم علم الاجتماع - كلية الآداب في جامعة ماردين - حلب سابقاً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock