وصلنا في الحديث حول “دلالة مصطلح الغَيبِ في التنزيل الحكيم”، إلى أنه من المنطقي التأكد من أن عدم معرفة “الغيب”، لا يتوقف عند حدود الإنسان؛ فقد أعطى القرءان الكريم مثالا على عدم معرفة الملائكة للغيب، بخصوص الإنسان الذي جعله الله سبحانه وتعالى “فِي الأرضِ خَلِيفَةٗۖ”، وذلك كما في قوله جل جلاله، في سورة البقرة: “وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ” [البقرة: 30].
بل، إن المولى سبحانه وتعالى قد بيَّن أنه استأثر بـ”علم الغيب”، فلا يعلمه إلا هو.. حتى الذين اصطفاهم من عباده، من الأنبياء والمرسلين، رغم إطلاعهم على “خبر السماء”، إلا أنهم لم يطلعوا ولم يعلموا الغيب. ويتأكد ذلك عبر العديد من الآيات الكريمات، مثل قوله تبارك وتعالى: “وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلۡغَيۡبِ لَا يَعۡلَمُهَآ إِلَّا هُوَۚ وَيَعۡلَمُ مَا فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۚ وَمَا تَسۡقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعۡلَمُهَا وَلَا حَبَّةٖ فِي ظُلُمَٰتِ ٱلۡأَرۡضِ وَلَا رَطۡبٖ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ” [الأنعام: 59].
ضمن الدلالات على استئثار الله تبارك وتعالى بـ”علم الغيب”، التأكيد في عدد من آيات التنزيل الحكيم على ذلك؛ إذ، إضافة إلى الآية الكريمة السابقة [الأنعام: 59]، يأتي قوله سبحانه وتعالى، على لسان نوح عليه السلام: “وَلَآ أَقُولُ لَكُمۡ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلَآ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ وَلَآ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٞ وَلَآ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزۡدَرِيٓ أَعۡيُنُكُمۡ لَن يُؤۡتِيَهُمُ ٱللَّهُ خَيۡرًاۖ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا فِيٓ أَنفُسِهِمۡ إِنِّيٓ إِذٗا لَّمِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ” [هود: 31]؛ وهي الآية التي تؤكد بأن نبي الله نوح “لا يعلم ٱلۡغَيۡبَ”.
أيضا، يأتي قوله سبحانه، كأمر للنبي الأكرم، عليه الصلاة والسلام، بالقول: “قُل لَّآ أَمۡلِكُ لِنَفۡسِي نَفۡعٗا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَآءَ ٱللَّهُۚ وَلَوۡ كُنتُ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ لَٱسۡتَكۡثَرۡتُ مِنَ ٱلۡخَيۡرِ وَمَا مَسَّنِيَ ٱلسُّوٓءُۚ إِنۡ أَنَا۠ إِلَّا نَذِيرٞ وَبَشِيرٞ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ” [الأعراف: 188]. هذا القول، الذي يؤكد أن النبي “لا يعلم ٱلۡغَيۡبَ”، يأتي تأكيدًا للتفرد الإلهي بخصوص “ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرۡسَىٰهَاۖ”، كمثال بيِّن على “الغَيبِ”، الذي توضحه الآية الكريمة السابقة مباشرة؛ نعني قوله تعالى: “يَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرۡسَىٰهَاۖ قُلۡ إِنَّمَا عِلۡمُهَا عِندَ رَبِّيۖ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقۡتِهَآ إِلَّا هُوَۚ ثَقُلَتۡ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا تَأۡتِيكُمۡ إِلَّا بَغۡتَةٗۗ يَسۡـَٔلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنۡهَاۖ قُلۡ إِنَّمَا عِلۡمُهَا عِندَ ٱللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ” [الأعراف: 187].
علم الغَيب إذن، اختصاص إلهي محض؛ إذ يقول المولى عزَّ وجل في سورة “الأنعام”: “وَعِندَهُۥ مَفَاتِحُ ٱلۡغَيۡبِ لَا يَعۡلَمُهَآ إِلَّا هُوَۚ…” [الأنعام: 59]؛ وأيضا، يقول عزَّ من قائل: “قُل لَّا يَعۡلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ٱلۡغَيۡبَ إِلَّا ٱللَّهُۚ وَمَا يَشۡعُرُونَ أَيَّانَ يُبۡعَثُونَ” [النمل: 65].
وفي قوله سبحانه: “مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ مَا تُبۡدُونَ وَمَا تَكۡتُمُونَ” [المائدة: 99]، يوضح الله لنبيه أن دوره باعتباره مبعوثًا للناس هو البلاغ فقط، والله هو من يعرف ما يفعله البشر، وما يدور في صدورهم وسيحاسبهم عليه.
ومثلما أوضح الله تبارك وتعالى أن الملائكة لا يعلمون الغيب، كما ورد في سورة “البقرة”، في قوله سبحانه: “وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ” [البقرة: 30].. فقد بيَّن كذلك، أن الجن لا يعلمون “الغَيب”، وذلك من خلال قصة وفاة النبي سليمان عليه السلام، كما وردت في سورة “سبأ”، في قوله تعالى: “فَلَمَّا قَضَيۡنَا عَلَيۡهِ ٱلۡمَوۡتَ مَا دَلَّهُمۡ عَلَىٰ مَوۡتِهِۦٓ إِلَّا دَآبَّةُ ٱلۡأَرۡضِ تَأۡكُلُ مِنسَأَتَهُۥۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلۡجِنُّ أَن لَّوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ ٱلۡغَيۡبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلۡعَذَابِ ٱلۡمُهِينِ” [سبإ: 14].
رغم ذلك، أو بالرغم من أن علم الغيب هو اختصاص إلهي محض؛ إلا أن الله جل جلاله يُخبرنا، عبر آياته البينات، بأنه “يَجۡتَبِي مِن رُّسُلِهِۦ مَن يَشَآءُۖ”، وذلك في قوله سبحانه: “مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنتُمۡ عَلَيۡهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلۡخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطۡلِعَكُمۡ عَلَى ٱلۡغَيۡبِ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَجۡتَبِي مِن رُّسُلِهِۦ مَن يَشَآءُۖ فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۚ وَإِن تُؤۡمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمۡ أَجۡرٌ عَظِيمٞ” [آل عمران: 179].
ولعل أكثر الأمثلة وضوحا، على الاجتباء الإلهي قصة العبد الصالح مع نبي الله موسى عليه السلام، التي وردت في سورة “الكهف”؛ ففي هذه السورة، يخبرنا رب العزة بلقاء نبيه موسى رجلا صالحا يمتلك علما من عند الله وحده “وَعَلَّمۡنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمٗا” [الكهف: 65]؛ وفي هذه القصة، يؤدي العبد الصالح ثلاثة أفعال قائمة على علمه بأمور غيبية:
ـ غيب المكان في واقعة السفينة: “أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ فَكَانَتۡ لِمَسَٰكِينَ يَعۡمَلُونَ فِي ٱلۡبَحۡرِ فَأَرَدتُّ أَنۡ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٞ يَأۡخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصۡبٗا” [الكهف: 79].
ـ غيب الزمن والمصير في واقعة الغلام: “وَأَمَّا ٱلۡغُلَٰمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤۡمِنَيۡنِ فَخَشِينَآ أَن يُرۡهِقَهُمَا طُغۡيَٰنٗا وَكُفۡرٗا” [الكهف: 80].
ـ غيب المكان والزمان في واقعة الجدار وكنز الغلامين: “وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيۡنِ يَتِيمَيۡنِ فِي ٱلۡمَدِينَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزٞ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ ذَٰلِكَ تَأۡوِيلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرٗا” [الكهف: 82].
ـ هذا بخلاف معرفته المُسبقة بعدم قدرة موسى على التحمل: “قَالَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِيعَ مَعِيَ صَبۡرٗا” [الكهف: 67].
في هذا السياق، يمكن القول بأن الغيب أمره عند الله، لا يعلمه غيره؛ لكنه سبحانه، في الوقت نفسه، يكشف عمَّا يشاء منه لمن يشاء من رسله، تصديقًا لقوله تعالى في سورة “الجن”: “عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ فَلَا يُظۡهِرُ عَلَىٰ غَيۡبِهِۦٓ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ٱرۡتَضَىٰ مِن رَّسُولٖ فَإِنَّهُۥ يَسۡلُكُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ رَصَدٗا” [الجن: 26-27].
وللحديث بقية.