رؤى

فكرة “براون”.. وتحديات إدارة العالم أمريكيا

تصاعد الجدال خلال السنوات الأخيرة، حول مستقبل النظام الدولي، في إطار الشكوك التي باتت تحيط بالقدرة الأمريكية على قيادة النظام الدولي بشكل منفرد؛ في ظل تزايد التحدي للقوة الأمريكية من قوى أخرى منافسة، خاصة روسيا والصين.

واللافت.. أن الحرب الروسية الأوكرانية قد ساهمت في المزيد من الجدال حول القيادة الأمريكية للنظام الدولي، الذي تصدّع منذ بداية تسعينات القرن الماضي، بعد تفكك الاتحاد السوفياتي القوة العظمى التي كانت تنافس الولايات المتحدة حينذاك

لقد كشفت الحرب، الروسية الأوكرانية عن تراجع قدرة واشنطن على إقناع الكثير من حلفائها، بالتماهي مع الموقف الأمريكي منها؛ ولعل هذا ما دفع البعض إلى القول بأن العالم على وشك الدخول في مرحلة جديدة، من التعددية القطبية.

ضمن هؤلاء البعض، يأتي رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، ومبعوث الأمم المتحدة الخاص للتعليم العالمي، جوردون براون، الذي كتب منذ حوالي عام، في 11 سبتمبر 2023، في موقع “فورين بوليسي”، مقالا بعنوان “التعددية القطبية الجديدة.. كيف يمكن للولايات المتحدة تجديد المؤسسات العالمية التي أنشأتها؟”.

أهم ما يُشير إليه المقال، أن الدولة التي استطاعت قيادة عالمٍ أحادي القطب، ما يزال بوسعها أن تقود عالمًا متعدد الأقطاب؛ مؤكدا أنه من الأفضل أن تأخذ زمام المبادرة لإعادة بناء النظام العالمي الجديد.. ليس من خلال إصدار الأوامر إلى الدول الأخرى- كما لو كانت تابعة- بل من خلال إقناعها، وباعتبارها الدولة التي ما يزال معظم العالم يتطلع إليها للقيادة.

مقال براون يلفت إلى أنه من خلال قوة التعاون فقط، يمكن تحقيق الحل الذي تؤيد فيه الولايات المتحدة نظام التعددية الجديدة، أو المتجددة، الذي يهتم بوضع حلول عالمية للمشكلات العالمية من خلال المؤسسات العالمية، وحينها لن تحتاج واشنطن إلى القلق كثيرًا بشأن نفوذ بكين أو موسكو المتزايد بشكل واضح على الساحة العالمية.

ولعل الملاحظ أن براون ليس أمريكيا، لكنه كان المسئول الأول في دولة كبرى، لها وضعيتها الدولية؛ ومن ثم، عندما يتحدث بهذه الصياغات عن قيادة جديدة للنظام الدولي، في إطار الزعامة الأمريكية، فهو يعرف بالتأكيد التحديات الكبرى التي تواجه القوى الأمريكية، في الوضعية الحالية لها، من عمر النظام الدولي. بمعنى أن براون، وإن لم يصرح بهذه التحديات التي تواجه القيادة الأمريكية للنظام الدولي، فهو -في الوقت نفسه- يحاول تقديم النصيحة للأمريكيين بالتحرك تجاه التعددية، حتى تتمكن الولايات المتحدة من الحفاظ على قيادتها لهذا النظام.

فما هي التحديات التي سكت عنها براون؟

إذا كان ثم ما يمكن استخلاصه من رصد ومتابعة الأوضاع الدولية الراهنة، فإن أهم ما يأتي في هذا الشأن أن الولايات المتحدة الأمريكية، كانت قد برزت منذ أولى تباشير عقد التسعينات الماضي، بوصفها أقوى قوة عسكرية في العالم، وشاءت أن تنتهز فرصة “السيولة” الدولية لتقدم نفسها قوة مهيمنة على “نظام دولي جديد”؛ وإذا كان من الصحيح أن كثيرا من الكتاب والمحللين السياسيين “العرب” قد شاركها ذلك لأغراض وأسباب مختلفة، وأشاعوا في الرأي العام العربي أن الولايات المتحدة نجحت في فرض نظام الهيمنة على العالم، وأنها أصبحت “الحائط الوحيد” الذي يمكن الارتكان إليه؛ إلا أنه يبقى من الصحيح أيضا أن ذلك تضخيم لموقع الولايات المتحدة.

وهو تضخيم ناتج عن عدد من التحديات التي تواجه القوة الأمريكية، والأهم القيادة الأمريكية للنظام الدولي. وإذا اقتربنا أكثر من بانوراما الصورة، يمكن ملاحظة أن هذه “القيود – التحديات” تأتي تلك “القوة” الأمريكية، من ثلاثة وجوه أساسية:

الأول: عسكري، ويتمثل في وجود قوى نووية متعددة لديها صواريخ عابرة للقارات. بعبارة أخرى، يقف الرادع النووي والصاروخي لأية دولة أخرى حائلا يمنع انفراد الولايات المتحدة بموقع القمة العسكرية لفترة طويلة قادمة، خاصة وأن هناك احتمال تزايد الدول الحائزة على السلاح النووي (الهند وباكستان، وإيران على الطريق)، وذلك في إطار ما تحاوله دول وسط آسيا من تسويق لبضاعتها النووية تحت تأثير الحاجة الاقتصادية .

الثاني: تقني (تكنولوجي)، ويتمثل في مستوى التقدم التقاني في عدد من الدول الصناعية الكبرى. بعبارة أخرى، لقد استطاعت الولايات المتحدة خلال شهور قليلة (بعد ديسمبر 1941) وقبل بزوغ القطب السوفياتي الذي زحف ليتقاسم القمة الدولية معها، من بناء أقوى قوة عسكرية في العالم. حدث هذا نتيجة درجة عالية من التقدم التقني واتساع قاعدة التصنيع في الولايات المتحدة، كما حدث في الأربعينات. ترى، كم من الوقت تحتاج اليابان أو ألمانيا (أو الصين)، الآن في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، لتتحول إلى دولة عسكرية متفوقة، إذا دعت الضرورة إلى ذلك؟!

الثالث: سياسي، ويتمثل في مدى مصداقية القوة العسكرية الأمريكية في خدمة القرار السياسي والاقتصادي لها. بعبارة أخرى، ما لم تخدم القوة العسكرية الولايات المتحدة في المحافظة على وضع القمة، فإنها تصبح قوة غير قابلة للتصديق. وفي الأمد المنظور، فإن الولايات المتحدة ليست في خصومة شديدة مع آية دولة أخرى ذات مصداقية عسكرية مهمة، خاصة على مستوى القوى العسكرية النووية. ومن ثم، فإن تفوقها العسكري لا يدخل بالضرورة في توازنات القوة بين القوى الصناعية الكبرى، وهو الأمر الذي يجعل من بلدان “الجنوب” مجالا لها (العراق وأفغانستان مثالا)، وليس في هذا ما يدل أو حتى يشير إلى تأكيد التفوق.

وهكذا.. فإن هذه القيود تعرفها الدول الصناعية الكبرى، وحيث يوجد الإدراك بهذه القيود، تتعامل الدول (الكبرى) على أساس أن المرحلة الراهنة، مرحلة انتقالية أو مؤقتة، يمكن استنفاذها إلى نهايتها لتحقيق المزيد من القوة العسكرية، وكذا الاستعداد لبناء النفوذ السياسي والاقتصادي، دون خشية من الولايات المتحدة .

ولعل هذا هو ما يفسر “التصارع” القائم حاليا، بين توجهين تتضمنهما ساحة التفاعلات الدولية..

التوجه الأول، الذي تصبو الولايات المتحدة إلى تنميته وتطويره؛ هو تأكيد المكانة الأمريكية الراهنة في هيراركية النظام الدولي، وهي المكانة التي ـ ربما ـ كان التوصيف الأقرب إلى واقعها هو “القيادة” ولكن بسمات تجمع بين سمات “إمبراطورية”، ونظام “القطب الأوحد” في نظام دول ذات سيادة، وسمات “القطب الأعظم” أو القابض على التوازن في نظام توازن قوى دولي “تحت التكوين” .

التوجه الآخر، الذي تصبو إليه دول كبرى غير الولايات المتحدة؛ إنه التوجه الذي لا يوجد في إطاره مكان لقطب أعظم قائد، ولكن يمكن أن يكون هذا القطب ـ على أقصى تقدير ـ الأكثر امتيازا بين أقطاب كلهم متساو، وهو التوجه الذي يبدو أن الصين وروسيا، غير رافضتين له، وكذلك فرنسا، في حين يبدو أن بريطانيا وألمانيا، وربما اليابان، مترددون في الموافقة عليه.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock