رؤى

الصين وأفريقيا.. وتوظيف مصطلح “فخ الديون” غربيًا

يأتي انعقاد منتدى التعاون الاقتصادي، في دورته التاسعة، بين الصين وأفريقيا، في العاصمة الصينية بكين، خلال الفترة 5-6 سبتمبر الجاري- خطوة مهمة في اتجاه تأكيد انتقال الصين إلى مربع التنافس الاستراتيجي للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، في أحد مسارح التنافس المهمة، وهي قارة أفريقيا التي تُعد من بين أكثر القارات الغنية بالمعادن والموارد، التي تحتاجها أية قوة عظمى تسعى لتأكيد نفوذها الإقليمي والدولي.

وفي ما يبدو، تُعد الصين متقدمة على الولايات المتحدة في إطار تنافسهما الاستراتيجي، حول السيطرة والنفوذ العالمي؛ خاصة في ما يتعلق بالتواصل الاقتصادي مع القارة الأفريقية. إذ إن الصين ظلت تعمل على تعزيز وبناء جسور التواصل مع دول القارة، عبر منتدى التعاون الصيني الأفريقي، لأكثر من عقدين من الزمان، وذلك في مقابل استراتيجية أمريكية لم تعتمد من جانب الكونجرس، الأمر الذي يجعل المبادرة الأمريكية تفتقر للموارد المطلوبة للدفع بها إلى الأمام.

ومن الواضح، أن الصين تستفيد من قدرتها على الحركة نتيجة المرونة التي تتبعها، في عدم التقيد بسجل حقوق الإنسان، أو قواعد الحكم الرشيد، كنوع من الاشتراطات التي تُقيد حركة الأمريكيين في التعامل مع الدول الأفريقية.

ومن ثم، يبدو التساؤل المطروح، ذلك الذي يتعلق بمدى نجاح منتدى التعاون الصيني الأفريقي، في تحقيق مطالب الدول الأفريقية في الاستفادة من الإمكانيات الصينية، في ظل مساهمة الصين الواضحة في مشروعات البنية التحتية بشكل أفضل من الأمريكيين؟!

يعتبر منتدى التعاون الصيني الأفريقي (FOCAC) إطارا رئيسا للتعاون بين الصين ودول القارة الأفريقية؛ وقد أصبح واحدا من أهم المحاور التي تربط بين الجانبين، سياسيا واقتصاديا وثقافيا. بل إن المنتدى، منذ إنشائه في عام 2000، لعب دورا محوريا في تعزيز العلاقات الثنائية بين دول القارة وبين الصين؛ فضلا عن توسيع نطاق التعاون في مجالات متعددة، بما في ذلك التجارة، الاستثمار، البنية التحتية، التعليم، الصحة، والتكنولوجيا.

بهذا الشكل، حقق المنتدى منذ تأسيسه إنجازات يمكن ملاحظتها في عديد من المجالات..

على صعيد التجارة، ارتفع حجم التبادل التجاري بين الصين والدول الأفريقية بشكل كبير، خلال العقدين الماضيين. ففي عام 2000، بلغ حجم التجارة الثنائية حوالي 10 مليار دولار أمريكي، في حين تجاوز هذا الرقم 200 مليار دولار في السنوات الأخيرة، بما يجعل الصين الشريك التجاري الأكبر لأفريقيا.

أيضا، فقد ساهمت الصين في تمويل وتنفيذ العديد من مشروعات البنية التحتية في أفريقيا، بما في ذلك بناء الطرق، السكك الحديدية، الموانئ والجسور. والملاحظ أن هذه المشروعات لا تستهدف فقط تحسين البنية التحتية في القارة، بل كذلك تعزيز الروابط التجارية وتسهيل حركة البضائع والخدمات بين الدول الأفريقية، وبينها وبين الصين.

كذلك، في مجال التعليم استثمرت الصين في تدريب الطلاب الأفارقة، حيث زاد عدد المنح الدراسية التي تقدمها الجامعات الصينية للطلاب الأفارقة بشكل كبير؛ هذا بالإضافة إلى بناء الصين للعديد من المدارس والمراكز التعليمية في دول القارة.

فضلا عن ذلك، على الصعيد الصحي، يكفي أن نذكر أن الصين كانت واحدة من أكبر الدول المانحة للقاحات والمساعدات الطبية للدول الأفريقية، خلال جائحة كورونا، ما ساهم في تخفيف آثار الجائحة على القارة.

منذ تأسيس المنتدى الصيني الأفريقي، تبدت ملاحظة تصاعد حجم القروض الصينية الموجهة لتمويل قطاعات البنية التحتية، التي تشمل الطرق والسكك الحديدية والموانئ ومحطات الطاقة؛ وقد بلغ حجم القروض الصينية، خلال الفترة 2006-2021، في هذه القطاعات، ما يُقدر بحوالي 195 مليار دولار.

وبالرغم من دور مشروعات البنية التحتية الإيجابي على صعيد جذب الاستثمارات الأجنبية؛ ومن ثم الإسهام طويل الأمد للتنمية في الدول الأفريقية.. إلا أن الإعلام الغربي يستخدم مصطلح “فخ الديون” لأغراض الدعاية السياسية المناوئة للصين.

والواقع، أن هذا المصطلح “دبلوماسية فخ الديون الصينية”، كان قد ظهر لأول مرة بواسطة براهما تشيلاني، المفكر الاستراتيجي والمؤلف الهندي، في مقال نشره عام 2017، تحت نفس العنوان. ومنذ ذلك الحين.. انتشر المصطلح ووظّف لأغراض الدعاية المناوئة للصين بواسطة الحكومات الغربية والإعلام التابع لها؛ وذلك بغرض الدعاية بأن الصين تستخدم القروض لفرض توجهات سياسية واقتصادية محددة، ما يمكن أن يؤدي إلى فقدان السيادة للدول الأفريقية. رغم ذلك فقد تنامى التعاون الصيني الأفريقي، طوال السنوات الماضية عموما، وخلال السنوات الخمس الماضية بشكل خاص.

ولعل المُثير في الأمر، أن الصين ليست السبب الرئيس في أزمة الديون الأفريقية. صحيح أنه لا يمكن تجاهل المخاوف المرتبطة بإمكانية استخدام القروض كأدة صينية للسيطرة على الاقتصادات الأفريقية؛ وصحيح أن حجم الدين العام في أفريقيا ارتفع إلى 1.8 تريليون دولار أمريكي، وأن هذا الرقم أعلى بنحو 300% من معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في أفريقيا.. إلا أنه يبقى من الصحيح أيضا أن الصين ليست السبب الرئيس في أزمة الديون التي تعاني منها دول القارة الأفريقية.

إذ على خلاف الانطباع السائد، فإن الدائنين من القطاع الخاص، خاصة المُقرضين الغربيين من القطاع الخاص، بما في ذلك البنوك التجارية الغربية ومديري الأصول وتجار النفط، هم أكبر المُقرضين للدول الأفريقية، في إطار أزمة الديون الحالية، وليست الصين.

ولنا أن نُلاحظ -على صعيد نسبة الدين- أن الدائنين من القطاع الخاص الغربي يحتفظ بما نسبته 35% من الديون الخارجية لأفريقيا؛ وهي نسبة أعلى بكثير من نسبة 12% المستحقة للمُقرضين الصينيين.

ومن ثم، فإن مصطلح “فخ الديون” هو نوع من الداعية السياسية الغربية المناوئة لتنامي النفوذ الصيني، على مستوى القارة الأفريقية، التي تُمثل إحدى الساحات الرئيسة في التنافس الاستراتيجي بين الغرب الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، وبين القوى الآسيوية الكبرى، وعلى رأسها الصين وروسيا.

رغم الإنجازات الكبرى التي تحققت من جانب منتدى التعاون الصيني الأفريقي، إلا أن هناك عدد من التحديات التي تواجه استمرار التعاون بين الجانبين الصيني والأفريقي، من أبرزها مسألة التوازن التجاري، وذلك من منظور أن العديد من الدول الأفريقية تعاني من العجز التجاري مع الصين؛ نتيجة أن هذه الدول تستورد بشكل كبير المنتجات الصينية، في حين أن صادراتها إلى الصين تتركز بشكل أساسي في المواد الخام، بما يخلق اختلالا في التوازن التجاري بينهما. هذا إضافة إلى مسألة الديون، التي يمكن أن تتسبب في أزمة سيادية للدول الأفريقية؛ في حال لم تتمكن بعض هذه الدول من السداد.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock