شهدت العلاقات بين مصر وتركيا على مدار العقد الماضي توترات حادة، خاصة في ما يتعلق بالملفات الإقليمية الأكثر حساسية، مثل الأزمة في ليبيا. وربما لهذا السبب، تأتي أهمية زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى تركيا، في 4 سبتمبر الجاري، والتي وصفها الإعلام العربي والمصري والتركي أيضا بأنها “زيارة مفصلية”؛ وذلك من منظور أنها قد تفتح الباب أمام إعادة صياغة العلاقات بين البلدين، من حيث تأثيرها على الوضع في ليبيا.
ومن ثم، فإن التساؤل الذي يطرح نفسه، هو ذلك الذي يتمحور حول تأثير الزيارة على الخلاف المصري التركي في ليبيا؟!
لعل التقارب المصري التركي، بعد زيارة أردوغان إلى القاهرة في فبراير الماضي، وزيارة السيسي إلى أنقرة في سبتمبر الجاري، قد بعث آمالا كبيرة لدى الكثير من الليبيين بشأن ظهور “حل قريب” للأزمة في ليبيا، تلك المتواصلة منذ ثلاثة عشر عاما؛ وتحديدا في ما يتعلق بإنهاء حالة الانقسام السياسي بين شرق البلاد وغربها، وإمكانية الاتفاق على حكومة واحدة؛ والأهم، إمكانية تحويل الملف الليبي من دولي إلى إقليمي.
وقد ساهم في تنامي مثل ذلك الشعور أن الأزمة في ليبيا كانت من أولويات جدول زيارة الرئيس المصري خلال زيارته لتركيا، ومباحثاته مع الرئيس التركي بشأن طي صفحة هذه الأزمة. هذا فضلا عن تصريحات السيسي، خلال مؤتمر صحافي للرئيسين في أنقرة، حيث قال: “تبادلنا وجهات النظر حول الأزمة الليبية، واتفقنا على التشاور بين مؤسساتنا لتحقيق الاستقرار الأمني والسياسي في ليبيا، مع تأكيد أهمية طي صفحة تلك الأزمة، الممتدة من خلال عقد الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وخروج القوات الأجنبية غير المشروعة والمرتزقة من البلاد، وإنهاء ظاهرة الميليشيات المسلحة؛ حتى يتسنى لليبيا الشقيقة إنهاء مظاهر الانقسام وتحقيق الأمن والاستقرار”.
وبالتالي، يبدو أن التقارب المصري التركي يمكن أن ينعكس إيجابيا على متعلقات الملف الليبي، خاصة في حال استطاعت الدولتان تحويل هذا الملف إلى ملف إقليمي، عبر إمكانية تخفيف التدخلات الدولية، والتنافس بين مختلف الأطراف في ليبيا.
ولعل الأهم، في هذا الإطار، أن ينعكس التقارب المصري التركي على تخفيف حدة الانقسام الحاصل في ليبيا؛ في ظل التنازع حول السلطة بين حكومتين، كلتاهما تعتبر نفسها الحكومة الشرعية والوحيدة، الحكومة المكلفة من البرلمان في شرق ليبيا، ويرأسها أسامة حماد، والأخرى حكومة الوحدة الوطنية، المنتهية ولايتها في غرب ليبيا، ويرأسها عبد الحميد الدبيبة.
يبدو ذلك، إذا لاحظنا مدى التقارب الحاصل بين تركيا وشرق ليبيا، خلال الآونة الأخيرة، خاصة من البوابة الاقتصادية، الذي سوف ينعكس على الآفاق السياسية؛ إذ كان بلقاسم حفتر، رئيس صندوق إعادة إعمار درنة والمدن والمناطق المتضررة (من الفياضانات التي اجتاحت مُدُنًا بشرق ليبيا، في سبتمبر 2023)، أجرى زيارة إلى تركيا، في يوليو الماضي، التقى خلالها وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، وبحثا التعاون الثنائي.
منذ اندلاع الصراع الليبي، عقب سقوط نظام حكم العقيد معمر القذافي، في عام 2011، لعبت كل من مصر وتركيا دورا بارزا في دعم أطراف متعارضة على الساحة الليبية. فقد دعمت مصر الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، الذي يسيطر على كامل مناطق الشرق الليبي.. في المقابل دعمت تركيا حكومة الوفاق الوطني السابقة، التي كان يترأسها فائز السراج، وأرسلت قوات عسكرية وتكنولوجيا لتعزيز نفوذها في منطقة الغرب الليبي؛ فضلا عن دعمها لحكومة الوحدة الوطنية الحالية، التي يرأسها عبد الحميد الدبيبة.
هذه التناقضات، إضافة إلى ملفات إقليمية أخرى، في مقدمتها غاز شرق المتوسط، أدت إلى تعميق الخلاف بين مصر وتركيا، وجعل ليبيا ساحة صراع إقليمي بينهما؛ طوال سنوات تمتد إلى منتصف العقد الفائت.
إلا أن زيارة السيسي لتركيا، بعد زيارة أردوغان للقاهرة، وفي ظل تغيرات إقليمية ودولية، يعكس الرغبة المصرية التركية في إعادة النظر في العلاقات بينهما؛ وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تقليص التوترات بين البلدين في عديد من الملفات، وفي مقدمتها يأتي الملف الليبي، بكافة تفريعاته وتناقضاته على الساحتين العربية والإقليمية.
وهنا، تتبدى ملامح التقارب، وتأثيرها على الملف الليبي، على أكثر من صعيد..
على الصعيد السياسي، يمكن لهذا التقارب أن يكون فرصة للبلدين لإعادة ترتيب أوراقهما في ليبيا. إذ إن هذا التقارب قد يؤدي إلى محاولة إيجاد حلول توافقية للصراع الليبي، سواء من خلال دعم حكومة الوحدة الوطنية الحالية، أو البحث عن آلية جديدة لتقاسم السلطة، في اتجاه حلول عملية لمسألة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في ليبيا. بل، من الممكن أن يُساهم هذا التقارب، المصري التركي، في تقارب الفصائل الليبية المتصارعة للجلوس إلى طاولة المفاوضات، مما قد يُسهم في تحقيق نوع من الاستقرار السياسي، خاصة إذا أدركت الأطراف المتصارعة في ليبيا، عدم جدوى التصارع في ظل عدو وجود الدعم المصري أو التركي لأي منها.
أيضا، فإن التواجد العسكري لكل من مصر وتركيا في ليبيا، يُعدّ من أهم نقاط الخلاف بينهما. فقد نشرت تركيا قوات ومعدات عسكرية لدعم الحكومة الليبية في الغرب، بينما حافظت مصر على وجودها العسكري بالقرب من الحدود الليبية في الشرق لدعم حفتر. ومن ثم، تأتي زيارة السيسي إلى تركيا، في اتجاه تقليل التوتر العسكري بين البلدين، وربما الاتفاق على الانسحاب التدريجي للقوات الأجنبية “غير الشرعية”، بحسب تعبير الرئيس المصري، من ليبيا؛ وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تخفيف الصراع العسكري على الأرض الليبية، ويساهم في خفض مستوى العنف هناك.
كذلك، فإن ليبيا التي تعاني من دمار اقتصادي كبير، تمثل فرصة كبيرة لمصر ولتركيا، للمشاركة في إعادة إعمارها. ومع التحسن المحتمل في العلاقات المصرية التركية، يمكن أن تشهد الفترة القادمة تعاونا اقتصاديا بين البلدين في هذا المجال؛ بمعنى أن شركات البناء المصرية والتركية، قد تجد فُرصا للعمل في مشاريع إعادة الإعمار في ليبيا، بما يعود بالنفع على مصر وتركيا.
رغم التفاؤل الذي يصاحب عملية التقارب بين مصر وتركيا، إلا أن هناك عدة تحديات قد تعيق التقدم في تحسين العلاقات بين البلدين، في ما يختص بالملف الليبي.
فالقوى الدولية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وروسيا، فضلا عن الصين، وناهيك عن فرنسا وإيطاليا، لديها مصالح في ليبيا؛ وقد تسعى إلى التأثير على أي تقارب “واقعي” بين القاهرة وأنقرة، بخصوص ليبيا. بالإضافة إلى الفصائل الداخلية الليبية، التي قد لا تكون مستعدة لتقبل أي حلول تفرضها مصر وتركيا.
رغم ذلك، فإن زيارة الرئيس المصري إلى تركيا، في إطار التقارب الحاصل في العلاقات المصرية التركية- تُمثل خطوة هامة لتقارب دبلوماسي بين البلدين، خاصة في ظل الصراع الحاصل على الأرض الليبية. ورغم التحديات التي تواجه هذا التقارب، إلا أن التقارب في العلاقات بين البلدين، سوف يؤثر على “تغيير المعادلات” الخاصة بالصراع الليبي، خاصة في ظل المصالح الاقتصادية المشتركة بين مصر وتركيا، بخصوص مشاريع إعادة الإعمار في ليبيا.