رؤى

مصطلح “ٱلشَّهَٰدَةِ”.. ودلالة صيغة “شَهِدَ” التقريرية

تختلف صيغ “الفعل” في اللسان العربي، ما بين الصيغة التفعيلية والصيغة التقريرية؛ فالصيغة “التفعيلية” للفعل، هي تلك التي يُربط من خلالها بين القول والفعل.. وقد وصلنا من قبل إلى مواضع الورود الأربعة، التي ورد فيها الفعل “شَهِدَ”، عبر الصيغة “التفعيلية”، “الإنجازية”، له [الأنعام: 19، 130 – الأعراف: 172 – التوبة: 1].

هذا، بخلاف الصيغة “التقريرية” التي تستتبع فعلًا أو ينتج عنها. وفي آيات التنزيل الحكيم، يأتي استعمال الفعل “شَهِدَ” مع غير ضمير المتكلم، وفي تصريف غير المضارع، ليُحَوِّل قيمة الفعل إلى القيمة/الصيغة التقريرية.

فما هي أهم مواضع ورود الفعل “شَهِدَ”، عبر صيغته التقريرية؟

في مواضع ورود الفعل “شَهِدَ”، عبر قيمته التقريرية، أو بالأحرى من خلال صيغته التقريرية لـ”ٱلشَّهَٰدَةِ”؛ يستند فعل الشهادة أساسا إلى “تأكيد معرفة حقيقة معينة والإقرار بها”.. وهو ما يتبدّى بوضوح، من خلال سورة البقرة، حيث “الميثاق” بين الله تبارك وتعالى وبني إسرائيل، الذين يشهدون في نهايته عليه ويقرونه؛ وذلك كما في قوله سبحانه: “وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِيثَٰقَكُمۡ لَا تَسۡفِكُونَ دِمَآءَكُمۡ وَلَا تُخۡرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَٰرِكُمۡ ثُمَّ أَقۡرَرۡتُمۡ وَأَنتُمۡ تَشۡهَدُونَ” [البقرة: 84].

وفي سورة البقرة أيضا، تأتي الشهادة انطلاقا من حضور فعلي ومادي وشهادة عيان؛ فمن “شَهِدَ” شهر رمضان، أو بالأصح من “شَهِدَ” ولادة هلال الشهر الفضيل، وجب عليه الصوم؛ كما في قوله تعالى: “شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِيٓ أُنزِلَ فِيهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدٗى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَٰتٖ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ…” [البقرة: 185]. وكما يبدو هنا، في الآية الكريمة، تأتي صيغة الفعل “شَهِدَ” من خلال الصيغة التقريرية لـ”ٱلشَّهَٰدَةِ”.

بيد أننا نؤكد على خطأ  الإصرار على فهم “ظاهر اللفظ” في التكليف، وخطأ الإصرار على حصر فعل “شَهِدَ” في الآية الكريمة بحدود الدلالة الحضورية؛ بمعنى أنه “فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡيَصُمۡهُۖ”، تؤشر إلى أنه من رآه مُشاهدة، فهو “شهيد” على ولادة الشهر؛ ومن أُخبر بذلك مُعتمدًا على شهادة “شهيد”، أو على علم وخبرة “حسابات فلكية” فهو شاهد على ولادة الشهر. وفي نظرنا، فإن كلًا من الشهيد والشاهد في هلال رمضان “مقبول”. أما بخصوص الشهيد، فسيأتي الحديث عنه في إطار بحث الشاهد والشهيد.

في هذا الإطار، لنا أن نستشعر أن “ٱلشَّهَٰدَةِ” في آيات التنزيل الحكيم، هي نوع من إثبات وقوع الحدث؛ بمعنى أن “ٱلشَّهَٰدَةِ” تتحول إلى واجب تفرضه العدالة، لتحقيق ضرورة اجتماعية نتيجة لوجود “الشاهد” في الحدث، في وقت وظرف محددين، كما في حالة “الدَّين”.

هذه الحالة، يؤكدها قوله عزَّ وجل، في سورة البقرة: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيۡنٍ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى فَٱكۡتُبُوهُۚ وَلۡيَكۡتُب بَّيۡنَكُمۡ كَاتِبُۢ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَلَا يَأۡبَ كَاتِبٌ أَن يَكۡتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُۚ فَلۡيَكۡتُبۡ وَلۡيُمۡلِلِ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ وَلۡيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥ وَلَا يَبۡخَسۡ مِنۡهُ شَيۡـٔٗاۚ فَإِن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيۡهِ ٱلۡحَقُّ سَفِيهًا أَوۡ ضَعِيفًا أَوۡ لَا يَسۡتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلۡيُمۡلِلۡ وَلِيُّهُۥ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَٱسۡتَشۡهِدُواْ شَهِيدَيۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ فَإِن لَّمۡ يَكُونَا رَجُلَيۡنِ فَرَجُلٞ وَٱمۡرَأَتَانِ مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحۡدَىٰهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحۡدَىٰهُمَا ٱلۡأُخۡرَىٰۚ وَلَا يَأۡبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْۚ وَلَا تَسۡـَٔمُوٓاْ أَن تَكۡتُبُوهُ صَغِيرًا أَوۡ كَبِيرًا إِلَىٰٓ أَجَلِهِۦۚ ذَٰلِكُمۡ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقۡوَمُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَرۡتَابُوٓاْ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةٗ تُدِيرُونَهَا بَيۡنَكُمۡ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَلَّا تَكۡتُبُوهَاۗ وَأَشۡهِدُوٓاْ إِذَا تَبَايَعۡتُمۡۚ وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٞ وَلَا شَهِيدٞۚ وَإِن تَفۡعَلُواْ فَإِنَّهُۥ فُسُوقُۢ بِكُمۡۗ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ” [البقرة: 282].

ولنا أن نُلاحظ كيف أطلقت الآية اسم “الشهيد” على الإنسان الذي شهد البيع والعقد، سمعيا وبصريا، وأدى شهادته بما شهد، كما حظرت الإضرار به “وَلَا يُضَآرَّ كَاتِبٞ وَلَا شَهِيدٞۚ”. أيضا لنا أن نُلاحظ أهمية الإشارة في قوله عزَّ من قائل، إلى “وَٱسۡتَشۡهِدُواْ شَهِيدَيۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ”؛ وكما يذكر المفكر السوري، محمد شحرور، رحمه الله، فإن الأهمية هنا في الإشارة إلى “مِن رِّجَالِكُمۡۖ”، تعود إلى أن “الشهيد” لا مؤنث له، فالرجل شهيد، والمرأة شهيد.

والدليل، أن الإشارة إلى الجمع “ٱلشُّهَدَآءِ”، وليس إلى “الشهيدات”، وذلك كما في قوله تبارك وتعالى: “فَإِن لَّمۡ يَكُونَا رَجُلَيۡنِ فَرَجُلٞ وَٱمۡرَأَتَانِ مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ”؛ وهو ما يؤكد، كذلك، خلافًا للفقه السائد، أن شهادة المرأة تُعادل شهادة الرجل في كل الحالات، إلا في هذه الحالة؛ أي ما عدا عقود البيع فقط.

وفي الإطار نفسه أيضا، (إطار الصيغة التقريرية للفعل “شَهِدَ”) حيث يستند فعل الشهادة أساسا إلى “تأكيد معرفة حقيقة معينة والإقرار بها”.. يأتي قوله سبحانه: “فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنۡهُمُ ٱلۡكُفۡرَ قَالَ مَنۡ أَنصَارِيٓ إِلَى ٱللَّهِۖ قَالَ ٱلۡحَوَارِيُّونَ نَحۡنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ” [آل عمران: 52]؛ كما يأتي قوله تعالى: “وَإِذۡ أَوۡحَيۡتُ إِلَى ٱلۡحَوَارِيِّـۧنَ أَنۡ ءَامِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّنَا مُسۡلِمُونَ” [المائدة: 111].

وفي الآيتين الكريمتين، يأتي التعبير القرءاني “وَٱشۡهَدۡ بِأَنَّنَا مُسۡلِمُونَ” للدلالة على الصيغة التقريرية للفعل “شَهِدَ”، من خلال طلب “ٱلۡحَوَارِيِّـۧنَ” لـ”ٱلشَّهَٰدَةِ” بكونهم “مُسۡلِمُونَ”؛ من “عِيسَىٰ” عليه السلام في الآية الأولى [آل عمران: 52]؛ ومن المولى سبحانه وتعالى في الآية الثانية [المائدة: 111].

وهو ذات التعبير القرءاني الذي يأتي في صيغة الجمع “ٱشۡهَدُواْ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ”، في قوله جل جلاله: “قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ تَعَالَوۡاْ إِلَىٰ كَلِمَةٖ سَوَآءِۭ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَيۡـٔٗا وَلَا يَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُولُواْ ٱشۡهَدُواْ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ” [آل عمران: 64]؛ حيث يأتي ختام الآية الكريمة إقرارا على كونهم “مُسۡلِمُونَ”؛ وأن طلب الشهادة هو إعلان الإقرار بهذه الحقيقة.

وفي موضع آخر، من مواضع ورود الفعل “شَهِدَ”، عبر صيغته التقريرية لـ”ٱلشَّهَٰدَةِ”؛ يأتي طلب الشهادة على لسان نبي الله هود عليه السلام، وذلك في قوله عزَّ من قائل: “إِن نَّقُولُ إِلَّا ٱعۡتَرَىٰكَ بَعۡضُ ءَالِهَتِنَا بِسُوٓءٖۗ قَالَ إِنِّيٓ أُشۡهِدُ ٱللَّهَ وَٱشۡهَدُوٓاْ أَنِّي بَرِيٓءٞ مِّمَّا تُشۡرِكُونَ” [هود: 54]. فهو، عليه السلام، لم يكتف بالقول “إِنِّيٓ أُشۡهِدُ ٱللَّهَ”، ولكن أقر بطلب الشهادة منهم بأنه “بَرِيٓءٞ” مما يُشركون.

وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock