رؤى

قبائل الشرق.. قنبلة السودان “الموقوتة”

عبر صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، حذرت قوات “الدعم السريع”، خلال الأيام القليلة الماضية، من أن الجيش السوداني يسلّح بعض القبائل في شرق البلاد؛ مؤكدة أن ذلك يُنذر باندلاع حرب أهلية، تُشكل تهديدا للنسيج الاجتماعي “الذي يُعاني من الاحتقان بالأساس، وبات الآن قابلا للاشتعال من جديد”.

ولم يتوقف الأمر عند حدود التحذير من تسليح قبائل شرق السودان؛ ولكن بات هذا الشرق، بولاياته الثلاث، كسلا والقضارف وبورتسودان، مركزا لنشاط كبار قيادات نظام عمر البشير، والمؤتمر الوطني، الذي أسقطته ثورة السودان في 2019. وبحسب التقارير الواردة مؤخرًا، لم يكتف هؤلاء بالدعوة إلى استمرار الحرب الدائرة حاليا بين الجيش والدعم السريع؛ بل والتحريض ضد كل المختلفين معهم، سواء من الدعم السريع أو قوى الحرية والتغيير، باعتبارهم حلفاء ضمنا لقوات الدعم.

شرق السودان

يُمثل إقليم شرق السودان، جغرافيًا حدود السودان مع إثيوبيا وإريتريا ومصر؛ وهو إقليم يتميز بموقع استراتيجي يطل على البحر الأحمر، لا يجعل منه المنفذ البحري الوحيد للسودان وحسب، عبر بورتسودان “البوابة الرئيسة للتجارة الخارجية، بما في ذلك النفط”؛ ولكن أيضًا لعدد من الدول مثل جنوب السودان وإثيوبيا وتشاد.

ويبلغ عدد سكان الشرق حوالي 6 مليون نسمة، نصفهم تقريبًا من قبائل البجا التي تشمل قبيلتي الهدندوة والأمرار؛ إضافة إلى قبائل بني عامر والرشايدة، وهي قبائل عربية تمتد بين السودان وإريتريا، وكذلك قبائل البشارية التي تمتد بين السودان ومصر؛ فضلًا عن قبائل العفر وبني شنقول التي تمتد بين السودان وإثيوبيا. وتتحدث معظم قبائل شرق السودان لغة واحدة أصلها “كوشي”، باستثناء بني عامر الذين يتحدثون “التيغراي”، ويُنظر إليهم بوصفهم وافدين على السودان.

وتأتي أزمة الشرق، ضمن الأزمات الموروثة عن حقبة نظام البشير، وما تركه وراءه من أزمات اقتصادية وتنموية، واجتماعية، تضرب بجذورها في ثنايا المجتمع السوداني؛ إذ رغم مساهمة الإقليم الكبيرة في عائدات الموانئ، فضلًا عن صادرات الثروات الطبيعية، وفي مقدمتها الذهب؛ إلا أنه ظل يُعاني، طوال سنوات عديدة، من ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، نتيجة التهميش السياسي والاقتصادي والتنموي؛ ما حدا ببعض أبنائه إلى المطالبة بالانفصال عن الدولة الأم، على غرار انفصال الجنوب عن السودان، في يوليو 2011.

وكان إقليم شرق السودان قد شهد صراعًا بين قبائل بني عامر والحباب من جهة، وقبائل البجا والهدندوة من جهة أخرى، نظرًا للصراع على الحقوق التاريخية في الإدارة والموارد الخاصة بالإقليم. ورغم التوصل إلى اتفاق حول الشرق، منذ عام 2006، في إريتريا كان هدفه دعم التنمية في الإقليم؛ إلا أن الاتفاق لم يفض إلى شيء، بسبب سياسات نظام البشير، ما أعاد إنتاج نفس الأزمة. وفي أعقاب سقوط البشير ونظامه، عادت المواجهات القبلية مرة أخرى، على مدار العامين الماضيين، بين بني عامر والهدندوة، وبين الأولى والنوبة.

ولعل ذلك ما يطرح التساؤل، حول التأثيرات السلبية التي يمكن أن تنتج عن تسليح قبائل إقليم شرق السودان وتداعياتها؛ ليس على الداخل السوداني فقط، ولكن أيضًا على دول جوار شرق السودان.

تأثيرات سلبية

لعل أهم هذه التأثيرات تبدو عبر أكثر من احتمال، سواء عبر إمكانية اندلاع حرب أهلية في الإقليم، أو التأثير على مسار الصراع في السودان بين الجيش والدعم السريع، أو من خلال احتمال أن يُصبح شرق السودان منطقة صراع إقليمي.. وغيرها.

وكما يبدو، فإن أهم هذه التأثيرات هي التالية:

أولًا: توظيف القبيلة وإشكالية التناحر المجتمعي؛ فقد أدى توظيف نظام البشير للقبيلة، من خلال تعمد تسييس القبائل، ومحاولة خلق كتلة قبلية موالية له في شرق السودان، في تفاقم الاستقطابات المجتمعية، والمساهمة في تنامي الشعور بالهوية القبلية على حساب الهوية الوطنية؛ وهو ما أدى إلى جعل القبيلة أساسًا للتناحر السياسي والمجتمعي، واتخاذ الصراع في الإقليم.. الشكل القبلي بشقيه الاجتماعي والاقتصادي.

وقد تجلى ذلك في استمرار مطالب الحكم الذاتي وتقرير المصير؛ وهي المطالب التي تتصاعد من آن لآخر، في إطار المساعي لحسم القضايا التنموية والصراع على الموارد، بين قبائل الإقليم، سواء بين سكان الإقليم الأصليين، أو بينهم وبين الوافدين عليهم من أقاليم السودان الأخرى، مثل مجموعات من قبائل المساليت والفور والهوسا، إضافة إلى الزغاوة.

ونتيجة للتهميش الذي عانى منه الإقليم- اتجهت بعض مجموعاته القبلية إلى تبني العمل المسلح ضد “المركز” في العاصمة الخرطوم، مثل حزب مؤتمر البجا، وجبهة أسود الشرق.

ثانيًا: تصعيد النزاع القبلي واحتمال الحرب الأهلية؛ إذ إن ظهور قيادات النظام السابق في شرق السودان، يستهدف محاولة استنفار قبائل الإقليم للانخراط في الصراع الذي يشهده السودان حاليًا، والوصول إلى توسيع رقعة الحرب وتمددها إلى الشرق، عبر مشاركة القبائل والميليشيات المسلحة؛ وهو ما يمكن أن يؤدي إلى الحرب الأهلية، خاصة في ظل التنوع القبلي، وتاريخ التناحر بين مكونات الإقليم.

ولعل هذا الاحتمال يتبدى بوضوح، من خلال الحالة الأمنية الرخوة التي يُعاني منها شرق السودان؛ إضافة إلى ما يتوافر لدى الإقليم من كميات كبيرة من الأسلحة المتنوعة، التي تدفقت إليه من دول الجوار الجغرافي والإقليمي، خلال الصراع القبلي الذي نشب قبل عامين، بما يجعل القبائل المتنازعة على استعداد للدخول في الصراع الدائر، منذ 15 أبريل الماضي، بين الجيش وقوات الدعم السريع.

ثالثًا: التأثير على توازن القوى في الصراع؛ حيث إن الدعوات إلى التسليح العشوائي للقبائل، أو اللجوء إلى تشكيل ميليشيات مسلحة في إقليم الشرق، بهدف دعم الجيش في صراعه مع قوات الدعم، يجعل من السودان منفتحًا على أكثر الاحتمالات سوءا في تاريخ الصراعات الداخلية التي شهدها السودان على مدار تاريخه الحديث.

فمثل تلك الدعوات ونتائجها، لن تُساهم في الحسم العسكري الذي يأمله الطرفان المتحاربان؛ بل على العكس سيؤدي إلى حرب أهلية واسعة، في ظل العصبية القبلية التي تُهيمن على النسيج المجتمعي في الإقليم. إذ إن الموقف المؤيد للجيش، من جانب محمد الأمين ترك، رئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا، سيدفع القوى القبلية الأخرى، خاصة التي لها تاريخ من النزاع مع قبائل البجا، مثل بني عامر والرشايدة، إلى مساندة قوات الدعم السريع، من حيث إن لها مصالح معها.

وبالتالي تكون النتيجة أن يتحول شرق السودان إلى مسرح للاستقطاب والمواجهة السياسية والعسكرية بين الطرفين المتصارعين في السودان؛ فضلًا عن الاصطفاف الذي سيحدث على خط التوتر القائم، في الأصل، بين المجموعات القبلية، سواء من تعتبر نفسها مجموعات أصلية في الإقليم، أو تلك التي تُصنف على أنها وافدة. ويكفي دليلًا على ذلك، المسيرة التي نظمت في بورتسودان، ودعت الجيش في 9 مايو الماضي، إلى تزويد المدنيين بالسلاح لدعمه في المعارك الدائرة.

احتمالات مفتوحة

في هذا السياق.. يُمكن القول بأن غياب الأفق لحل سلمي عبر طاولة التفاوض، بين الطرفين المتقاتلين، سوف يؤدي إلى أن يطل الصراع في السودان على كافة الاحتمالات؛ إذ إن دعوات أصحاب الحرب والعنصرية، بل واختصار السودان في دولة البحر والنهر، قد تُعيد ترتيب القوى والاصطفاف القبلي في شرق السودان. وفي ظل عدم تمكن القوى الاجتماعية في الشرق من تجاوز خلافاتها التاريخية، فإن تسليح القبائل في الإقليم، يطرح اثنين من السيناريوهات: إما تكرار سيناريو “دارفور”، أو تكرار سيناريو “انفصال الجنوب”.. وهو ما يجعل مستقبل السودان كدولة.. على المحك.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock