رؤى

مصطلح “ٱلشَّهَٰدَةِ”.. ودلالة التمييز بين الحق والباطل

وصلنا عبر أحاديث سابقة إلى أن “ٱلۡغَيۡبِ” لغة: ما غاب عن العيون، أو مايدل على “تستر الشيء عن الرؤية العينية”؛ فـ”غياب الشمس” مثلا غروبها. أما “ٱلشَّهَٰدَةِ” لغة: فهي “الحضور ومُعاينة الشيء والعلم به”. وبالنظر في استخدام التنزيل الحكيم، يتبين أن الدلالة العامة لمصطلح “ٱلۡغَيۡبِ” هي الخفاء والستر؛ والدلالة العامة لمصطلح “ٱلشَّهَٰدَةِ” هي الظهور.. فالغائب خفي مُستتر، والمشهود ظاهر بيِّن.

ووصلنا أيضا إلى أن “ٱلشَّهَٰدَةِ” هي “الحضور ومُعاينة الشيء والعلم به”؛ وهي بذلك تؤشر إلى “البينة والدليل القاطع، بالحضور والمعاينة والإقرار لأمر ما”. و”ٱلشَّهَٰدَةِ” مصدر مشتق من الجذر “شَ هـِ دَ”، وهو أصل يدل على حضور، ومُشاهدة، وعِلم وإعلام؛ ولفظ “أشهد” من الألفاظ الدالة على “تحقُق الشاهد من الشيء”. وقد سُميت “ٱلشَّهَٰدَةِ” بهذا الاسم لأنها تؤشر إلى “مُشاهدة الشاهد للحدث المشهود”.

والمُلاحظ، أن الفعل “أشهد”، من المصدر الثلاثي “شَ هـِ دَ” الذي تتعدد مشتقاته في آيات التنزيل الحكيم؛ فمنها: الفعل “شهد”، والأسماء “شهادة” و”مشهود” و”مشهد” بمعنى ما يشهد عليه؛ وأخيرا من يقوم بفعل الشهادة، وله صورتين لسانيتين في القرءان الكريم: “شاهد” و”شهيد”، والجمع منهما: “شهداء” و”شهود”، وبصيغة قليلة الورود “أشهاد”.

ومن ثم، يمكننا إدراك كم يزخر مفهوم “ٱلشَّهَٰدَةِ” بالثراء في آيات التنزيل الحكيم؛ حيث نجد “159” موضعا لورود هذا المصطلح، بمختلف مشتقاته.

ولعل المُلاحظ، من خلال آيات التنزيل الحكيم، أن جميع صور “ٱلشَّهَٰدَةِ” تُميز بين شهادة الحق، وهي بالفعل الأكثر ورودا في النص القرءاني، وبين شهادة الباطل، أو الزور، التي يُعرف الموصوم بها بالفسوق عن الحق، ويوصف بكونه من “ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ”؛ بل ويُعتبر ارتكابها ذنب يُعاقب عليه القائم بها. إذ لنا أن نتأمل قوله سبحانه وتعالى: “كَيۡفَ يَهۡدِي ٱللَّهُ قَوۡمٗا كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ وَشَهِدُوٓاْ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقّٞ وَجَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ ٭ أُوْلَٰٓئِكَ جَزَآؤُهُمۡ أَنَّ عَلَيۡهِمۡ لَعۡنَةَ ٱللَّهِ وَٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِينَ” [آل عمران: 86-87]. وكما يبدو، عبر سياق الآية الكريمة، يأتي “الكُفر” من هؤلاء “ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ” بإنكار شهادتهم هم بأن “ٱلرَّسُولَ حَقّٞ”، وذلك بعدما “جَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ”.

أيضا في الإطار نفسه، يأتي قوله سبحانه: “قُلۡ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ يَشۡهَدُونَ أَنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَ هَٰذَاۖ فَإِن شَهِدُواْ فَلَا تَشۡهَدۡ مَعَهُمۡۚ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمۡ يَعۡدِلُونَ” [الأنعام: 150].. وهنا، عبر هذه الآية الكريمة، يأتي الأمر الإلهي “فَلَا تَشۡهَدۡ مَعَهُمۡۚ”، بما يدل على أن شهادتهم زورًا؛ ومن ثم، يَرِد التأكيد الإلهي “وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا”. ثم، يأتي ختام الآية تعريفًا لهؤلاء، حيث إنهم ليسوا فقط “لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡأٓخِرَةِ”، ولكن، إضافة إلى ذلك “وَهُم بِرَبِّهِمۡ يَعۡدِلُونَ”.

ومن المنظور اللساني، فإن لفظ “يَعۡدِلُ” يدل على العدل في الحكم بين شيئين؛ ولكن في حال أن يكون مصحوبا بحرف الجر “الباء”، فإنه يؤشر إلى الشيء عديلا ومساويا لشيء آخر. وقد جاءت بهذا المعنى، في آية أخرى، في السورة نفسها، سورة الأنعام، في قوله عزَّ من قائل: “ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَۖ ثُمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡ يَعۡدِلُونَ” [الأنعام: 1]. وبالتالي، فإن التعبير القرءاني “بِرَبِّهِمۡ يَعۡدِلُونَ”، لا يؤشر فقط إلى “ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ”، ولكن يدل على من يجعلون ما لا يصح أن يكون مساويا لله، ومساويا وعدلا وعديلا لله؛ فهذا فعل من جعلوا لله شركاء، وتكون شهادتهم -بالتالي- زورا.

وهكذا، وقياسا إلى شهادة الزور، وفي إطار وسم “وَعِبَادُ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلَّذِينَ يَمۡشُونَ عَلَى ٱلۡأَرۡضِ هَوۡنٗا…” [الفرقان: 63] بإحدى السمات التي يتسمون بها، ويتميزون من خلالها بأنهم “لَا يَشۡهَدُونَ ٱلزُّورَ”، يأتي  قوله تعالى: “وَٱلَّذِينَ لَا يَشۡهَدُونَ ٱلزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِٱللَّغۡوِ مَرُّواْ كِرَامٗا” [الفرقان: 72].

ثم تأتي المفاضلة وتوضيح العقاب، بخصوص شهادتي الحق والباطل في ما بين الأزواج، في مسألة “الملاعنة”، أو ما أُطلق عليها آية “اللعان”.. في قوله عزَّ وجل: “وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ أَزۡوَٰجَهُمۡ وَلَمۡ يَكُن لَّهُمۡ شُهَدَآءُ إِلَّآ أَنفُسُهُمۡ فَشَهَٰدَةُ أَحَدِهِمۡ أَرۡبَعُ شَهَٰدَٰتِۭ بِٱللَّهِ إِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ ٭ وَٱلۡخَٰمِسَةُ أَنَّ لَعۡنَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٭ وَيَدۡرَؤُاْ عَنۡهَا ٱلۡعَذَابَ أَن تَشۡهَدَ أَرۡبَعَ شَهَٰدَٰتِۭ بِٱللَّهِ إِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ ٭ وَٱلۡخَٰمِسَةَ أَنَّ غَضَبَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَآ إِن كَانَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ” [النور: 6-9].

ومن الضروري، في هذا الإطار أيضا، توضيح الفارق في المعنى والدلالة، بين حرفي الجر “اللام” و”على” من منظور فعل الشهادة؛ حيث إن حرف الجر “على” يُفيد الاستعلاء، في حين يُفيد حرف “اللام” التبيين والاختصاص. وفي غالب الأحيان، عندما يُقال شهد فلان لفلان، يأتي معناها أنه شهد لصالحه، بما هو خير ومنفعة له؛ لكن عندما يُقال شهد فلان على فلان، يكون معناها شهد عليه بما هو شر، أو بما يجر عليه عقوبة ما. هذا في الإطار العام للمعهود الذهني بين البشر.

لكن في آيات التنزيل الحكيم، عندما تقترن “الشهادة” بحرف الجر “على”، فهي تأتي للدلالة على شموليتها لمعاني كل من الخير والشر معًا؛ كما في قوله سبحانه وتعالى: “قُلۡ يَٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لِمَ تَكۡفُرُونَ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعۡمَلُونَ” [آل عمران: 98].. فالله تبارك وتعالى “شَهِيدٌ” على كل شيء من أعمال العباد، خيرا كان أو شرا.

كذلك بالنسبة إلى أمة محمد عليه الصلاة والسلام، التي جعلها الله تبارك وتعالى “أُمَّةٗ وَسَطٗا”، فهي ستأتي في مكانة “شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ”؛ وفي الوقت نفسه، سيكون الرسول “شَهِيدٗاۗ” على أمته؛ كما في قوله سبحانه: “وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ” [البقرة: 143].

أيضا تأتي شهادة الرسول الأكرم، عليه الصلاة والسلام؛ كما في قوله سبحانه، عن رسوله: “وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدًا عَلَيۡهِم مِّنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَجِئۡنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِۚ وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ” [النحل: 89].. فالرسول -عليه الصلاة والسلام- سيكون “شَهِيدًا”؛ لكن التساؤل: شهيدا على من؟

هنا يرى كثيرٌ من المفسرين القدامى، ومن سار على دربهم من المحدثين، أن الرسول سيكون شهيدا على أمته، قياسا إلى آية سورة البقرة [البقرة: 143]، وبدعوى أن “هَٰٓؤُلَآءِ” تعود على أمته؛ لكننا نرى العكس من ذلك.. إذ إن “هَٰٓؤُلَآءِ” تعود على الأمم وعلى الشهداء أيضا، أي على الناس كافة. والدليل على ذلك، قوله تعالى: “وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ” [سبإ: 28]. وكما يبدو، بوضوح، فإن التعبير القرءاني “كَآفَّةٗ لِّلنَّاسِ”، يتكامل مع سياق الآية الكريمة “شَهِيدًا عَلَيۡهِم مِّنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَجِئۡنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِۚ”. بمعنى أن الرسول لن يكون شهيدا على أمته فقط؛ بل سيكون شهيدا على الأمم والشهداء، أي على الناس كافة، وذلك من حيث كونه “بَشِيرا وَنَذِيرا”.

وللحديث بقية.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker