رؤى

الحركات المسلحة.. والصراع العسكري في السودان

في ظل الصراع الحالي، بين أكبر قوتين عسكريتين في السودان، القوات المسلحة والدعم السريع، تتزايد المخاوف من دخول الفصائل والحركات المسلحة على خط الصراع، لدعم هذا الطرف أو ذاك، ما يُهدد بانزلاق السودان إلى منعطفات خطيرة؛ خاصة بعد “تعليق” الجيش مشاركته في مفاوضات جدة، الأربعاء 31 مايو. ولعل هذا ما يدفع بالتساؤل حول احتمالات تدخل الحركات المسلحة، في الصراع بين الجيش والدعم السريع، إلى الواجهة.

وكما يبدو، فإن احتمالات تدخل تلك الحركات، تتأرجح بين مجموعة من “دوافع الحياد” الرئيسة، التي تؤشر إلى عدم دخول الحركات المسلحة على خط هذا الصراع، والانخراط فيه؛ في حين أن عددًا من “التداعيات السلبية”، قد تدفع إلى تدخلها بشكل أو بآخر.

دوافع الحياد

رغم تعدد الميليشيات والحركات المسلحة في السودان كأذرع للسلطة الحاكمة، وكأذرع أيضا للأحزاب والحركات السياسية في المعارضة؛ إلا أنه، مع اندلاع المواجهات بين الجيش والدعم السريع، التزمت الحركات المسلحة بالحياد، ولم تُعلن أي حركة دعمها لأي طرف.

ولعل هذا الموقف، وإن كان يؤشر إلى “إيجابية” الحركات المسلحة في عدم توسيع نطاق الصراع؛ فإنه في الوقت نفسه يؤكد على عددٍ من الدوافع التي أدت إليه.. أهمها ما يلي:

أولًا: محاولة فرض “الحل العسكري” على الأرض؛ إذ، لم تكن المواجهات العسكرية التي حدثت، وليدة اللحظة، أو نتيجة خلاف عابر بين المكونين العسكريين في السودان؛ بل سبقتها مؤشرات كثيرة، ساهمت فيما يشهده السودان من محاولات لفرض “الحل العسكري” على أرض الواقع.

ورغم هذه المؤشرات، التي بدت واضحة في الخلافات بين البرهان ودقلو، وسعي الطرفين لزيادة وانتشار القوات التابعة له في بعض المناطق؛ إلا أن ترتيبات العملية السياسية لم تشهد مشكلات كبيرة، إلا عند مناقشة إجراءات الإصلاح الأمني والعسكري، بما يعني أن الصراع العسكري لم يكن كـ”سيناريو” مطروحًا. لذلك، كانت فجائية تفجر الصراع، دافعا لعزوف الحركات المسلحة عن إبداء رد فعل سريع إزاء المواجهات.

ثانيًا: تباين مواقف الحركات المسلحة من الصراع؛ فعندما أزاح طرفا الصراع، قائدي الجيش والدعم السريع، الحكومة المدنية، في أكتوبر 2021، ليمسكا بزمام السلطة، انحازت بعض الحركات المسلحة إلى هذا الإجراء، فيما أعلن البعض الآخر رفضه؛ هذا التباين تبدى بوضوح أيضا عندما أعفى البرهان ونائبه دقلو، في يونيو الماضي، أعضاء مجلس السيادة من المدنيين، ليُصبح المجلس الحاكم مشَكَّلًا من العسكريين، وقيادات حركات التمرد المسلحة، التي وقعت على اتفاق جوبا.

صحيح أن كل طرف في الصراع السوداني، له حلفاء في الحركات المسلحة، وبالتالي قد يطلب من أنصاره مساندته في هذه الحرب؛ إلا أنه -إلى الآن- فإن كل الحركات المسلحة، سواء الموقعة على اتفاق جوبا أو غير الموقعة عليه، تقف مع الدعوة لإيقاف هذا الصراع، والتوصل إلى تفاهمات سياسية.

ثالثًا: وجود بعض الحركات المسلحة الداعمة للجيش؛ حيث إن هناك بعض الحركات المسلحة التي دعمت المؤسسة العسكرية، ولم ترفض الإجراءات التي تبناها مجلس السيادة الانتقالي، في أكتوبر2021، رغم رفض القوى المدنية الرئيسة مع عدد من الحركات المسلحة لهذه الإجراءات.

وبالنظر إلى هذه الحركات، التي تدعم الجيش، نجد أن من بينها حركة تحرير السودان – قيادة ميناوي، وحركة العدل والمساواة – قيادة جبريل إبراهيم، وأيضًا المجلس الأعلى لنظارات البجا بزعامة محمد الأمين ترك؛ حيث ترى هذه الحركات أن الجيش يمكن أن تكون له “الغلبة” على قوات الدعم السريع؛ وأن من مصلحتها بالتالي، عدم الدخول في مواجهات مع الجيش؛ والوقوف على الحياد عسكريًا، لكن مع دعم الجيش سياسيًا، في انتظار مراحل لاحقة سوف تحدد المستقبل السياسي للسودان.

تداعيات سلبية

رغم الدوافع، التي ساعدت على اتخاذ الحركات المسلحة موقف الحياد من الصراع العسكري، إلا أن ثمة تداعيات سلبية، يمكن أن تؤثر على مواقف بعض تلك الحركات، فتُغير من موقفها، وتُصبح هناك إمكانية لأن تنخرط في الصراع.

ولعل أهم هذه التداعيات.. ما يلي:

من جهة، تشظي الحركات المسلحة وكثرة عددها؛ فالسودان يزخر بمجموعة كبيرة من الحركات المسلحة؛ إذ، لا يحتكر الجيش استخدام القوة، حيث تبرز المظالم التاريخية والخلافات حول قضايا التهميش و”العنصرية”، والصراع على السلطة والثروة، في مناطق عديدة؛ وتُعد هذه الإشكالية من أهم أسباب استمرار عوامل عدم الاستقرار وكثرة المطالب الانفصالية، التي تضغط بقوة على أفكار التوافق والوحدة الوطنية، التي سعى إليها كثير من السودانيين إبان ثورتهم المجيدة، في 18 ديسمبر 2018.

ويُثير تشظي الحركات المسلحة وتكاثرها مخاوف كبيرة، كما يُلقي ظلالًا قاتمة حول إمكانية نجاح جهود الاستقرار في المناطق التي عانت نزاعات أهلية، استمرت أكثر من ثلاثة عقود؛ خاصة عندما نلاحظ وجود أكثر من 87 حركة مسلحة في السودان، منها 84 في إقليم دارفور، بحسب تقرير الأمم المتحدة الصادر في فبراير 2020.

من جهة أخرى، وجود عدد من الحركات خارج اتفاق جوبا؛ إذ رغم توقيع مجلس السيادة الانتقالي اتفاق سلام، مع عدد من الحركات المسلحة، في 3 أكتوبر 2020، وعلى صيغة محدثة له، الأحد 19 فبراير الماضي؛ إلا أن العديد من الحركات لا تزال خارج هذا الاتفاق، وهو ما يمكن أن يُفاقم من الصراعات القبلية والمناطقية، خاصة في دارفور وأبيي وجنوب كردفان والنيل الأزرق.

ولعل أهم، وأكبر، الحركات المسلحة التي رفضت اتفاق سلام جوبا، تأتي الحركة الشعبية لتحرير السودان – قيادة عبد العزيز الحلو، وحركة تحرير السودان – فصيل عبد الواحد نور؛ وبالتالي، يظل موقف هاتين الحركتين، وغيرهما، من الانخراط في الصراع الدائر، رهنًا بظروف سياسية وعسكرية خاصة بمن ستؤول إليه الغلبة، قبل الدخول في عملية سياسية؛ وهو الموقف الذي يمكن أن ينفجر في أي لحظة، إذا ارتأت هذه الحركات أن “الفرصة مناسبة” لتحقيق مصالحها.

من جهة أخيرة، الصراع العسكري وغياب هيبة الدولة؛ حيث كانت فكرة تأسيس جيش وطني موحد في السودان، تُمثل أحد الأهداف التي سعت إليها جموع السودانيين، التي شاركت في ثورة 2018؛ وبالفعل اُتخذت خطوات لتحقيق هذا الهدف، إذ تضمن اتفاق جوبا للسلام تأكيدًا على دمج هذه الحركات وقوات الدعم السريع، ضمن المؤسسة العسكرية السودانية؛ كما تضمن الاتفاق الإطاري التأكيد على الهدف نفسه.

رغم ذلك، لم يتحقق هذا الهدف، وانفجر الصراع بين أقوى قوتين عسكريتين في السودان؛ ولأن معظم الحركات المسلحة لا تحمل رؤية منهجية محددة، فإنها تستغل غياب هيبة الدولة لفرض واقع القوة في مناطق محددة. ومن ثم، فإذا كان الصراع العسكري الدائر حاليًا، قد ساهم في المزيد من غياب هذه “الهيبة”، فإنه يمكن أن يؤدي إلى انفلات عديد من هذه الحركات المسلحة، تحت تأثير احتمالات إثارة النزعات القبلية والإثنية، فتنخرط في الصراع الأساسي إلى جانب أحد أطرافه، أو أن تقوم بالسيطرة العسكرية على مناطق تواجدها.

دائرة مُفرغة

في هذا السياق، يُمكن القول بأن السودان قد دخل، فعليًا، إلى “دائرة مُفرغة”، من العنف والاقتتال، الذي يسمح باحتمال تفجر الأوضاع الأمنية في العديد من أقاليمه؛ خاصة في ظل ما تشهده هذه الأقاليم، من تصاعد الصراع على السلطة “دون الوطنية”، بين النخب السياسية المحلية المتنافسة، والحركات المسلحة، لتأسيس سيطرة محلية على الأرض أو لتأكيد السلطة بالقوة.

في هذا الإطار، يظل وجود قوات موازية للجيش تهديدًا للبلاد، وهو خطأ استراتيجي ساهمت فيه كافة الحكومات والديكتاتوريات السودانية التي حكمت السودان منذ الاستقلال، عام 1956؛ إذ، يمكن أن يُشجع وجود هذه القوات والحركات المسلحة على الاستقطاب القبلي والإثْنِي، مما يفتح المستقبل السوداني على مشاهد هي ـ جد ـ خطيرة.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock