رؤى

اليوم الأخير.. في حياة طومان باي

إنه اليوم الأخير.. لا بأس لقد قاتلت أعدائي كما يقاتل أشجع الرجال.. لم يهزمني عدوّي؛ بل هزمتني الخيانة التي أنتجها الحقد والطمع.. لم أقاتل من أجل منصب أو سطوة.. إن كنت راغبا في شيء من ذلك كان بإمكاني قبول ما دعاني إليه سليم الأول في رسالته.. لا أنكر أني فكرت في الأمر.. ربما حرصا على حياة بني جلدتي من الجراكسة.. ربما خوفا على مصر التي أحببتها كما لم أحب بلدا آخر.. لكنني ما لبثت  أن انتبهت إلى نصيحة الأمير علان الدودار الكبير، الذي أوعز إليَّ أن هؤلاء الهمج لا عهد لهم ولا ميثاق.. لذلك لم أمانع عندما أخذ رسل سليم وأعدمهم.. وبدأ إعداد الجند للقتال.. كان النصر قريبا جدا.. رأى سليم ومن معه أمارات الهزيمة واضحة تماما لدرجة أنهم ندموا وتعاتبوا ولعنوا خاير بك الذي أوهمهم أن غزو مصر مجرد نزهة لهم.

في معركة الخانقاه ورغم خيانة السافل جان بردي الغزالي، ومراسلته للأعداء وإعلامهم بتمركزات جيشي، ومدفعيتي- لم ترهبني أعداد العثمانيين وقد قسّموا أنفسهم إلى ثلاث فرق ليهاجمونا من جميع الجهات.. أبصرت آثار الخيانة لكن ذلك لم يَفُتَّ في عضدي.. اقتحمت الميدان برجالي أُعْمِلُ السيف في رقاب الروم الذي وقفوا مذهولين من شجاعة وإقدام تلك الفئة القليلة.. انتهيت ومن معي إلى سنجق السلطان، قتلنا كل من حوله.. أسرت وزير سليم المقرب المدعو يوسف سنان باشا -ظننته سليما أول الأمر- لم أتوان في ضرب عنقه، علمت بعد ذلك أن سليم بكاه قائلا: “لا قيمة لامتلاك مصر بعدك يا يوسف”.

توالت الخيانات بعد ذلك بعد أن تحركت الإِحن القديمة على قومي من الإعراب وبعض أمراء المماليك.. حتى كانت الهزيمة التي دخل الروم على إثرها القاهرة يوم الجمعة المتمم لذي الحجة للعام 922 من الهجرة.. وكان من العدو الغاشم  ما كان من إتاحة القاهرة للسلب والنهب والقتل وهتك الأعراض لثلاثة أيام.. ما ينفي أي علاقة لهؤلاء البرابرة بالإسلام، ويفضح إجرامهم وأخلاقهم الدنسة.

لم أضع السلاح ولم أُسَلّم للأعداء.. بعد ما رأيت من بطشهم وتجبرهم. أسرعت بتنظيم رجالي وكانوا نحوا من سبعة آلاف فارس.. وكانت المواجهة الأولى مع العثمانيين في شوارع القاهرة وأحيائها بحي الصليبة، وامتد القتال من حي بولاق إلى حي الناصرية.. قتلنا منهم أعدادا غفيرة.. كان الفرسان يقطعون رءوس المعتدين ويأتوني بها.. لكن التخاذل دب في عضد البعض عندما رأوا تعزيزات الجند العثماني.. قال أحدهم: لا طاقة لنا على مواجهة تلك النار المُهلكة.. ارتأيت ساعتها حفاظا على قوام الفرقة أن أنسحب إلى الضفة الغربية من النيل عند الجيزة، بعد أن تحصنت وقواتي فترة عند جامع ابن طولون قرب رأس الرميلة وقنطرة السباع.

لم يجد الغزاة البغاة أمامهم سوى العامة ممن لا حيلة في أيديهم من أهل القاهرة؛ ليرتكبوا في حقهم أشنع المجازر.. عندما بلغتي الأخبار بكيت على حال هؤلاء ولمت نفسي فلربما كان إصراري على المقاومة سببا فيما حدث.. لكنني عدت إلى رجالي الذين زفّوا إلى الخبر بانضمام جيش من العربان قوامه سبعة آلاف رجل إلى جيشنا.. ودارت المعركة عند أطفيح بعد أن عبر العدو إلى غرب النيل بالمراكب.. لله درك يا شادي بك أيها البطل الذي استطاع الاستيلاء على كل المراكب وحصار القوات المعتدية، ما مكننا من تطويقهم وإبادتهم عن بكرة أبيهم.

ورغم صعوبة الظروف استطعنا هزيمة الأعداء مجددا في معركة الجيزة، قبل أن ينتهي الأمر بالخيانة في وردان؛ لأجد نفسي مقيدا بالأصفاد في حضرة سليم الأول وهو ينظر إلي بنظرات لا تخفي إعجابه بصمودي البطولي.

علمت بعد ذلك أن قتلي لم يكن ضمن خطط السلطان.. كان ينوي صحبتي إلى استنبول أو تركي نائبا له على مصر.. لكن الخونة تدخلوا من جديد وأوعزوا إليه بخشيتهم من انتقامي منهم ومن التنكيل بهم خاصة الأمراء الجراكسة الذين انحازوا للعثمانيين.. كما أبلغوه أني لا أنسى ثأري، وأن اصطحابه إياي إلى عاصمته أمر محفوف بالمخاطر.

رضخ سليم للوشاة على مضض وأصدر أمرا بإعدامي إلى الناقم علي باشا دلقدار أوغلو، الذي اختار أن يكون مكان إعدامي هو نفسه مكان إعدام والده شهسوار بك على يد الجراكسة لتعاونه مع العثمانيين صيف 1472.

يسير الآن موكبي الأخير من بولاق ليشق القاهرة إلى حيث باب زويلة.. أرى الجموع تصطف على جانبي الطريق، يضجون بالبكاء والعويل.. لقد بادلتهم حبا بحب ورجوت الله أن أجنبهم كل هذا المآسي.. لكن لا راد لقضاء الله.. وها هي ذي المشنقة تلوح من بعيد.. عندما واجهت الجموع قبل لحظة النهاية طالبتهم بالدعاء لي وقراءة الفاتحة ثلاثا.. قبل أن أودعهم الوداع الأخير.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock